الأربعاء، 29 أغسطس 2012

 
ليس هناك من شك فى أن جميع المصريين يحلمون باليوم الذى يعود فيه الأمن أو شعورهم به إلى بلادهم بعد أن عاشوا منذ انطلاق الثورة فى كوابيس كل أنواع الجريمة والفوضى التى اجتاحت جميع ربوع البلاد دون تمييز. ولاشك أيضاً أن جميع المصريين يتوقون إلى اليوم الذى يرون فيه أجهزة الأمن فى بلادهم وقد عادت إليها الكفاءة والهيبة بما يمكنها من إعادة الاستقرار الذى غاب عنهم شهوراً طويلة.
إلا أن المصريين أنفسهم لم يعودوا مستعدين لأن يضحوا فى سبيل عودة الأمن المفقود والاستقرار الغائب وهيبة الدولة الضائعة بما حققوه فى ثورتهم من حرية وكرامة لم يعرفوهما منذ عشرات السنين. فالثورة لم تحقق لهؤلاء المصريين حتى اللحظة من أهداف ثورتهم الثلاثة: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية» سوى الحرية التى اقترنت دوماً فى أذهانهم وواقعهم بالتخلص من جميع صور التعدى على حقوقهم وكرامتهم من الأجهزة الأمنية فى جميع العهود السابقة. فبالنسبة للمصرى البسيط لا يعنى تحقيق الحرية أن يملك فقط إرادته فى التصويت بالانتخابات دون قيود أو إغراءات، ولكن أيضاً أن يغادره خوفه القديم إلى الأبد من الأجهزة الأمنية التى يريد أن تعامله كصاحب لهذا البلد وليس كمتسلل غريب إليها.
ولاشك أن عودة الأمن والهيبة والاستقرار مع الاحتفاظ بالحرية والكرامة العائدتين هى معادلة صعبة يجب العمل على حلها فوراً قبل أن تؤدى الفوضى وغياب الأمن إلى فقدان كل هذه المعانى والأهداف فى وقت واحد. ولاشك أن هذه المعادلة تستلزم شروع الدولة فى اتخاذ عديد من الإجراءات والتشريعات الضرورية لتحقيق كل هذه الأهداف فى وقت واحد دون أن يجور أحدها على الآخر. وفى هذا السياق، بدا واضحاً أن الأجهزة الأمنية باتت بحاجة حقيقية.
بعد أن فقدت الكثير من هيبتها وإمكانياتها بعد الثورة، إلى تشريعات وموارد مادية وبشرية إضافية لكى تستطيع أن تؤدى دورها الطبيعى فى إعادة الأمن وقبله الشعور بذلك من المواطنين. وقد طُرح عديد من الآراء فيما يخص التشريعات التى يمكن أن تساعد هذه الأجهزة فى التحرك السريع لتوقى الجريمة المتصاعدة قبل وقوعها وضبط الجناة بعد حدوثها، وكان من رأى البعض أن الحل الأمثل هو «قانون الطوارئ» الذى كان يحررها من أى قيود فى تحقيق هذه الأهداف. إلا أن أكثرية المصريين الذين عانوا لعقود طويلة من حكم «الطوارئ» والتوسع فيه لا يرون أنه الحل المثالى، فهو قد يعيد الأمن المفقود ولكنه سوف يطيح معه بما حققوه من حرية.
من هنا بدا غريباً أن يبادر وزير العدل المستشار المحترم أحمد مكى بطرح مشروع قانون جديد للطوارئ بحجة أنه البديل الوحيد لتمكين الأجهزة الأمنية من استعادة الأمن والهيبة. فهذا الطرح فى هذا التوقيت وبهذا الهدف المعلن، يعنى ببساطة أن هناك اتجاهاً حكومياً لفرض فورى لحالة الطوارئ بحيث يطبق ذلك القانون الجديد، وليس لكى يوضع فى الأدراج لحين الحاجة إلى تطبيقه.
والحقيقة أن القانون المقترح يتضمن عديداً من المواد التى تتجاوز بكثير هدف مواجهة الجريمة إلى تقييد الحريات العامة والخاصة وإعادة السلطات والمحاكمات الاستثنائية إلى البلاد دون أى حاجة لذلك، ومنها حقوق الاجتماع والتنقل والتظاهر والاعتصام، وعودة المحاكمات العسكرية للمدنيين. وقبل هذه التجاوزات الخطيرة التى يتضمنها مشروع القانون فى حق الحرية التى ما كاد المصريون يبدأون فى الشعور بها، فإن مادته الأولى تضع تعريفاً غائماً غامضاً لتطبيق الطوارئ وهو وجود حالة من «الاضطرابات» فى البلاد، وهو ما يعطى السلطة التى تريد فرضه هامشاً شديد الاتساع لكى تفعل هذا فى أى وقت تريد، وبالتفسير الذى تريد.
إن المواجهة التشريعية لمعضلة الأمن لا تحتاج لقانون الطوارئ، فهناك ترسانة هائلة من التشريعات القائمة فى قانون العقوبات وتعديلاته التى سمى بعضها بقانون مكافحة الإرهاب وبعضها الآخر بقانون مكافحة البلطجة، وهى كلها تكفى فى مضمونها وعقوباتها لمساعدة الأمن على القيام بدوره، بشرط أن تضاف إليها بعض التعديلات فيما يخص الإجراءات القانونية المتبعة فى مكافحة الجريمة، وهو الأمر الذى يمكن لخبرائنا القانونيين القيام به دون الحاجة لإعادة إنتاج «الطوارئ» بكل سوءاته ومخاطره على مستقبل مصر والمصريين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger