فى ذكرى وفاة عبدالناصر
Th
يصادف اليوم ذكرى مرور 42 عاما على رحيل عبدالناصر، الذى مازال، رغم أخطائه الكبيرة، حاضراً بقوة فى الذاكرة الجمعية ليس فقط للشعب المصرى ولكن للشعوب العربية كلها.
لم يكن عبدالناصر يؤمن بالديمقراطية الغربية، ويعتقد كثيرون أن فشله فى تأسيس نظام ديمقراطى كان أحد أهم الأسباب التى أفضت فى النهاية إلى هزيمة 1967 الكارثية، وأحدثت تآكلا تدريجيا لشرعية ثورة يوليو 1952 ومهدت لثورة يناير 2011. غير أن الصعوبات التى مرت بها مصر فى المرحلة الانتقالية الحالية، والتى لم تنته بعد، جعلت اليأس يدب فى النفوس من إمكانية تأسيس نظام ديمقراطى حقيقى فى بلد مازال يفتقد البنية التحتية الأساسية اللازمة لصناعة الديمقراطية، والتى لا يمكن اختزالها فى صناديق انتخابية شفافة. فالديمقراطية تتطلب، بالإضافة إلى ذلك، ثقافة سياسية تؤمن بها وتؤهل الناخب لحسن الاختيار والإحساس بالمسؤولية، وهى فى جميع الأحوال وسيلة لتحقيق أهداف الشعوب فى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وليست هدفا فى حد ذاتها.
لم تكن الحقبة الناصرية، التى سادها نظام غير ديمقراطى، كلها أخطاء وكوارث، فقد حققت مصر خلالها قفزات هائلة على طريق التقدم والتنمية الاقتصادية والعملية لم تعرفها منذ عصر محمد على، كما جرت خلالها محاولة لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية ربما لم تعرفه فى تاريخها كله. ولم تكن قوانين الإصلاح الزراعى والسد العالى ومجانية التعليم وحركة التصنيع وغيرها سوى علامات على هذا الطريق. فإذا أضفنا إلى ذلك أن مصر لم تتمتع بإرادة ذاتية مستقلة فى صنع سياستها الداخلية والخارجية فى أى فترة سابقة قدر تمتعها بها فى تلك الفترة، لأدركنا لماذا أصبحت مصر فى تلك الفترة زعيما فعليا وحقيقيا للعالم العربى كله وتبوأت المكانة التى تستحقها على الساحتين الإقليمية والعالمية.
لكل ما سبق لم يكن غريبا أن يتمسك الشعب المصرى بعبد الناصر، رغم الهزيمة القاسية التى تسبب فيها عام 67. فقد خرج هذا الشعب ليعبر عن حبه الجارف له فى مناسبتين مختلفتين وقعتا بعد هذه الهزيمة، الأولى: عقب قرار التنحى، حين خرج شعب مصر يومى 9 و10 يونيو معبرا عن رفضه للهزيمة ومتمسكا بعبدالناصر قائدا للمسيرة حتى تحقيق النصر، والمناسبة الثانية: عقب وفاته المفاجئة يوم 28 سبتمبر عام 1970، حين خرج الشعب مرة أخرى يبكيه ويعبر عن حزنه الشديد لفراقه. وربما يفسر هذا الحب قناعة الشعب المصرى بأن عبدالناصر هو الرجل الذى يستطيع غسل عار الهزيمة، من ناحية، واستخلاص الدروس المستفادة من أخطائه التى وقع فيها بسبب غياب الديمقراطية، من ناحية أخرى. وقد تمكن عبدالناصر خلال السنوات الثلاث التى تلت الهزيمة من إعادة هيكلة القوات المسلحة على النحو الذى مكنها من خوض واحدة من أعظم حروب مصر، وهى حرب الاستنزاف التى مهدت لنصر أكتوبر 73، وأصدر بيان 30 مارس 68 الذى التزم فيه ببناء دولة المؤسسات عقب إزالة آثار العدوان.
لكن الأقدار لم تمهل الرجل، لا من جنى ثمار النصر الذى أعد جيشه له، ولا من بناء دولة المؤسسات التى وعد بها شعبه، مما فتح الباب واسعاً أمام قوى الثورة المضادة للانقضاض على منجزات الثورة التى صنعها وقادها بنفسه. ومن المفارقات أن أحد أعضاء تنظيم حركة الضباط الأحرار التى صنعت الثورة والرجل الذى اختاره عبدالناصر بنفسه لخلافته هو الذى قاد الثورة المضادة بنفسه، متصورا أنه يستطيع أن يصنع لنفسه زعامة أكبر من زعامة عبدالناصر.
تعاقب السادات ومبارك على حكم مصر عقب رحيل عبدالناصر، لكنهما لقيا مصيرا مختلفا. فبينما ودع الشعب عبدالناصر بالدموع والآهات والحزن العميق على رحيله، جرى اغتيال السادات بواسطة رجال من داخل القوات المسلحة أثناء حضوره عرضا عسكريا احتفالا بنصر أكتوبر، دون أن يظهر الشعب مشاعر حزن عميق على رحيله، رغم استنكاره طريقة اغتياله، أما مبارك فقد ثار الشعب ضده وأصر على محاكمته وكان أول رئيس عربى يخلع ويحكم عليه بالسجن المؤبد ويودع السجن فعلا.
ألا يعد هذا أكبر دليل على أن الجمهورية الأولى انتهت برحيل عبدالناصر عام 1970، وأن الجمهورية الثانية، والتى تمثل الثورة المضادة، بدأت مع السادات وانتهت بنهاية حكم مبارك واندلاع ثورة يناير عام 2011؟.
العامل الوحيد الذى يجعلنا نعتبر أن عصور عبدالناصر والسادات ومبارك الثلاثة تنتمى لنفس الجمهورية هو أنها حكمت بنفس بنية وآليات النظام السياسى غير الديمقراطى لكن هل حقا دخلت مصر عصرا ديمقراطيا جديدا بعد ثورة يناير، أم أنها لاتزال تحكم بنفس بنية وآليات النظام السابق؟ وهل مجرد إجراء انتخابات حرة من خلال مؤسسات النظام السابق يمكن أن يحقق ديمقراطية تلبى طموحات الثورة؟ هذا هو السؤال الذى سيتكفل التاريخ بتقديم الإجابة الصحيحة عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق