الثلاثاء، 6 نوفمبر 2012

الخيانة ليست وجهة نظر! الياس خوري
2012-11-05

 
لم يكن السيد محمود عباس مضطرا للحديث عن رغبته في زيارة صفد عبر مقايضة تلفزيونية لهذه الرغبة بالتنازل عن حق العودة. فالرئيس الفلسطيني في مأزق، وهذا مفهوم، لكن الخروج من المأزق لا يأتي عبر التنازلات المجانية، وعبر تأكيد خيار اللاخيار.
العجيب في فلسطين ما بعد ياسر عرفات هو هذه الخفة التي تهيمن على عقول قادة السلطة الوطنية، فهم وصلوا في تبسيط الأمور الى حد انهم يعتقدون انهم يبيعون ويشترون، من دون ان ينتبهوا الى ان اصحاب السوق اقفلوه، وان لعبة البيع والشراء فقدت زبونها الاسرائيلي.
هل قصد الرئيس تطمين الاسرائيليين قبل ذهابه الى الأمم المتحدة؟ اذا كان هذا هو الهدف فليسمح لنا بأن نقول له ان كلامه ساذج. فالاسرائيليون لا يقاتلون اليوم من اجل الاحتفاظ بصفد بل من اجل هدف آخر. صفد ليست مهددة من قبل جحافل قوات الأمن الوطني التي يقودها السيد عباس، لذا لم يثر هذا التطمين سوى السخرية. اسرائيل تقاتل على كلّ الجبهات من اجل الاحتفاظ بالقدس والمستوطنات والغور، واذا كان هناك من تطمين على الرئيس تقديمه فهو هنا، عليه التنازل عن الضفة، كي يعم السلام بالمفهوم الاسرائيلي. 
اما حين يقول الرئيس انه لا يملك اي خيار، وان انتفاضة فلسطينية جديدة مستحيلة طالما بقي على رأس السلطة، فهو يعلن انه تخلى عن كل شيء، ولا ينتظر سوى رحمة من لا رحمة في قلبه، وانه قابع في مكانه في انتظار الرحمة الوحيدة التي يتقنها القاتل والتي يطلقون عليها اسم: رصاصة الرحمة.
لكن الآلة العسكرية السياسية في اسرائيل لا تشـــبع من دم ضحاياها، فإذا كان هدف اليمين الاسرائيلي الحاكم اليوم هو ابتلاع ما تيسر من الضفة الغربية، فهو لا يستطيع ان ينسى مشكلته مع سكان البلاد الأصليين، اي الفلسطينيين الذين صمدوا في ارضهم، وبقوا خلف الخط الأخضر، مشكّلين اقلية قومية مقهورة تواجه سياسة تمييز منظمة.
فبعدما نجح الصهاينة في جرّ البدو والدروز الى التجنيد الاجباري، في تلك الأيام المظلمة التي اعقبت حرب النكبة عام 1948، (وهو واقع يواجَه بمقاومة حقيقية لم تصل بعد الى المستوى الذي يفرض الخلاص منها)، اذا بهم يبدأون اليوم محاولة لجر مسيحيي فلسطين الى التجنيد في الجيش عبر عمل منظم شارك فيه كاهنان: جبرائيل النداف، كاهن الروم الارثوذكس في يافة الناصرة، ومسعود ابو حاطوم كاهن الروم الكاثوليك في كفركنا.
لا شك ان الكاهنين المحترمين ومن لف لفهما يستغلان مناخات الخوف الأقلوي التي اشاعها النظام الأسدي المتداعي في سورية، خصوصا وان هذه المناخات لقيت تشجيعا من مواقف الكنيسة الروسية المرتبطة بسياسات الكرملين، والتي تتكيء الى اللغة الكولونيالية القديمة في حماية الأقليات! كما انهما يبنيان مواقفهما على حالة اللا استقرار والخوف من المد الاسلامي في المنطقة، بعد فوز الاخوان في انتخابات الرئاسة المصرية، ومع المد السلفي الفالت من عقاله من تونس الى مصر.
هنا رأت المخابرات الاسرائيلية ان الظرف ملائم من اجل اطلاق الدعوة الى تجنيد المسيحيين في فلسطين بحجة ان هذا التجنيد يحميهم من المد الاسلامي الجارف!
فبدأت الحملة عبر لقاء تمّ في قاعة بيركوفيتش في مدينة نتسيريت علييت (الناصرة العليا) وعبر رعاية رئيس بلديتها السيد شمعون جابسو وبتنظيم من الجيش الاسرائيلي، حضره الكاهنان المذكوران وبعض الكشافة، وفيه تم الاعلان عن بدء حملة منظمة لتجنيد المسيحيين.
يجب ان نعلم ان السلطة الاسرائيلية تأخذ هذه المسألة بجدية، وان بالون الاختبار الذي اطلق في الناصرة العليا سوف يتكرر في اماكن أخرى، وان الهدف هو احداث انشقاق داخل المسيحيين اولا وفي المجتمع العربي الفلسطيني ثانيا، تمهيدا لتحويل الخيانة الى وجهة نظر.
الهدف الاسرائيلي هو تفكيك وحدة الشعب الفلسطيني في الدولة العبرية، وهذا الهدف يتضمن الهدف الأكبر وهو تهويد الجليل والخلاص من المثلث بأية وسيلة. اي متابعة سياسة التطهير العرقي التي لم تتوقف منذ حرب النكبة عام 1948.
المصيدة التي تبنيها اسرائيل للمسيحيين الفلسطينيين واضحة الهدف، ففصل المسيحيين عن شعبهم، ومحو تاريخهم الوطني، سوف يكون مقدمة ضرورية لهجرتهم من بلادهم، وبذا يكون التجنيد وسيلة ليس للحماية او للاندماج بالمجتمع الاسراائيلي كما يدّعي النداف واضرابه، بل وسيلة لاخراجهم من بيئتهم بحيث تصير الهجرة هي الحل الوحيد المتاح والمنطقي.
لقد جرى التلاعب بالمسيحيين في المشرق العربي طويلا، وكان قطبا هذا التلاعب هما حماقة بعض قياداتهم المهووسة بالسلطة كما في لبنان، وتركهم لمصيرهم وسط صعود الجنون الطائفي في اعقاب الغزو الامريكي كما في العراق. واذا كانت اللعبة في سورية لم تنجح حتى الآن، فان الاسرائيليين يعتقدون انهم يستطيعون حسم المسألة في فلسطين عبر تحطيم الوحدة الوطنية التي بناها الفلسطينيون دفاعا عن وجودهم وسط خرائب النكبة.
كاهنان سفيهان ومشبوهان يتصديان اليوم للعب بدم الناس، ويشكلان رأس حربة العار والخراب.
المواقف المناهضة لهذه اللعبة الجديدة كانت واضحة وجلية. من قرار مجلس الطائفة العربية الارثوذوكسية في الناصرة بفرض الحرم على النداف ومنعه من دخول الكنيسة، الى موقف البطريرك صباح المناهض للتجنيد، الى استنكار دائرة الاعلام في ابرشية الروم الكاثوليك لحضور ابو حاطوم اجتماع التجنيد وصولا الى موقف البطريلاك الارثوذكسي الى آخره.
مواقف صارمة لكنها لا تكفي، فنحن نواجه مشكلة كبرى ليس التجنيد سوى بدايتها، انها مشكلة الخيانة.
الخيانة ليست وجهة نظر انها خيانة يجب ان تُواجه وتُرفض عبر اجماع وطني لا التباس فيه.
وهذا يقتضي عملا حقيقيا من اجل بناء اشكال سياسية لتوحيد الموقف السياسي للفلسطينيين خلف الخط الأخضر، وبناء عمل جبهوي حقيقي وموحد يضم جميع القوى بهدف التأكيد على الهوية الفلسطينية داخل الكيان الصهيوني، بوصفها وسيلة بقاء ومقاومة.
وصلت الوقاحة برئيس بلدية الناصرة العليا الى ذروتها، فالرجل الذي يرأس بلدية اقيمت على اراض مغتصبة تابعة للناصرة (مدينة يسوع الناصري)، لم يخف عنصريته وطائفيته، فهو وسط شغفه بالمسيحيين وتجنيدهم يجاهر بطائفيته الممجوجة، معلنا انه لن يسمح بوضع شجرة ميلاد في بلدته، لأن الناصرة العليا بلدة يهودية!
هذا العنصري الذي لا يستطيع ان يحتمل شجرة الميلاد، ويكره الرموز المسيحية يقود الى جانب كاهنين سفيهين حملة تجنيد المسيحيين في الجيش الاسرائيلي!
الخيانة ليست وجهة نظر.
وقاحة الخيانة لم تعد تُحتمل ايها الكاهنان. ذكرتماني باميل حبيبي وهو يعلن رغبته في 'معط' لحية الخوري. نعم حلا عن هذا الشعب المنكوب، واخلعا اللباس الكهنوتي والبسا ثياب جيش الاحتلال، وهذا افضل لكما، لأنه يغسل شرف الكنيسة من عاركما.
الخيانة ليست وجهة نظر.
خفة الخيانة لم تعد تُحتمل ايها السيد الرئيس. كفى، فالشعب الفلسطيني ليس شحاذا ولا خانعا كي يُباع ويُشترى بكلام الخائفين وفاقدي البصيرة.
الخيانة ليست وجهة نظر، فليفهم الجميع من قادة حماس الى قادة فتح، ان المفاوضات مع من لا يريد ان يفاوض، او مال الغاز الآتي من اكبر قاعدة عسكرية امريكية في العالم، لن يستطيع ان يخرس شعبا قرر ان لا يموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger