هيئة الكتاب المصرية تحذف مقالا من كتاب
لزكي نجيب محمود كتبه قبل 32 عاما
أعادت طباعته ضمن مشروع «القراءة للجميع»
| ||
|
القاهرة: أيمن حامد
«لم يكن السؤال الضخم الذي ألقته الحضارات البشرية على نفسها هو: كيف يكون النصر في الحروب؟ بل كان: كيف يمكن التغلب على الحروب لتزدهر الحياة في ظل السلام؟ وهو سؤال جاءت محاولات الإجابة عنه في إحدى صور ثلاث: الصورة الأولى هي أن تحاول الدولة القوية بسط سلطانها على بقية العالمين ـ إذا أمكن ذلك ـ لتسكت فيها كل صوت للمعارضة، ومن ثم فهي تخرج من معارك الحروب بحالة من الصمت الأخرس عند المغلوب، وتخيل لنفسها أنها في حالة السلام المنشود، ولا عليها عندئذ أن تفرق بين استسلام وسلام؛ والصورة الثانية هي أن تعقد الدولة الراغبة في كتم أنفاس الآخرين، أحلافا مع مجموعات من دول تجد صوالحها محققة في التحالف معها، بحيث يكون لتلك الأحلاف من القوة ما يضمن لها أن تظل سيوف العداء مشلولة في أغمادها، فتعد هذا الشلل سلاما، مادام قد كفل لها امتناع القتال؛ والصورة الثالثة أن تسعى الدولة الراغبة في اجتناب الحرب نحو إقامة حالة من التوازن بين سائر القوى، لعل هذا التوازن أن يحقق السلام». لم يكن المقطع السابق سوى جزء من مقال كتب قبل أكثر من 30 عاما، لكنه يبدو طازجا وكأن صاحبه قد عايش النظام العالمي الجديد في ظل القطب الواحد أو شاهد الحرب على الإرهاب عبر الفضائيات، عايش عصر الدبابات الأميركية والإسرائيلية وهي تقتحم كابول وبغداد وغزة ورام الله. لكن ربما لا يثير الأمر أي دهشة حينما نعرف هوية كاتب هذه السطور، الذي تميز بقدرة كبيرة على التحليل واستشراف المستقبل وقراءة التاريخ والوقوف عند التفاصيل التي تتيح الرؤية المعمقة للأشياء والبحث الدائم والدؤوب عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم. لقد كتب المفكر والفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905 - 1993) هذا المقال عام 1976 وضمنه كتابه «ثقافتنا في مواجهة العصر» الذي نشرته دار الشروق المصرية في العام ذاته. ويجتهد فيه محمود لسبر غور موروثنا الثقافي من ناحية ثم إمعان النظر في ثقافة العصر من جهة أخرى، بحثا عن وسيلة تلتقي بها الثقافتان عند أبناء الأمة العربية. وقد حمل المقال المذكور عنوانا كاشفا وعميقا وهو «العنصرية والعسكرية معا»، وفيه يتحدث عن تماهي المشروع الأميركي والصهيوني وتشابهه في الغايات والأهداف والمصير المحتوم حتى لو تلوى والتف حول ذاته وتسمى بتسميات مختلفة وعبر عن مواقف مغايرة. يقول زكي نجيب محمود: «إن جميع الحضارات التي سلفت وزالت، إنما تحطمت على إحدى الصخرتين، أو على الصخرتين معا، وهما: الروح العسكرية التي تميل بأصحابها إلى شن حروب لا تنقطع حتى ينهد كيانهم من الداخل، ثم الروح العنصرية التي قد يشتط بها أصحابها إلى إيجاد ضروب من التفرقة بينهم وبين سواهم من البشر، بحيث يجعلون لأنفسهم المكانة العليا في تلك التفرقات، ولغيرهم المكانة الدنيا؛ فإذا ما طبقنا هذه القاعدة الحضارية على الوجود الإسرائيلي، أيقنا بمصيرها المحتوم، لأنها جمعت بين القبيحين اللذين يعملان على هدم الحضارات ومحوها، إذ جمعت في كيانها: العسكرية والعنصرية معا». ورغم الدهشة من تحليل الفيلسوف المصري الذي عبر عنه قبل أكثر من ثلاثين عاما وبعد ما يقرب من تسع سنوات فقط على نكسة يونيو عام 1967، إلا أن المدهش حقا هو أن كتاب زكي نجيب محمود الذي أعيد نشره مؤخرا عبر مشروع «القراءة للجميع»، جاء مشوها ومبتورا إذ تدخل مقص الرقيب تدخلا مريبا نتج عنه حذف هذا المقال تماما من الكتاب والذي كان المقال الأخير والاكتفاء بـ21 مقالا حوتها نسخة مكتبة الأسرة ضمن المشروع المذكور، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات عن الأسباب التي دفعت الرقابة إلى حذف مقال محمود في هذا التوقيت بالذات. هل ربما لأن الكتاب ينتمي إلى مرحلة ما قبل اتفاقية كامب ديفيد التي ربما فرضت قيودا على مهاجمة إسرائيل ثقافيا وإعلاميا خاصة الإعلام الحكومي فكان لا بد من التخلص من أي إشارات عدائية تتعلق بالماضي؟ أم أن المطلوب العمل على تغيير وعي الشباب بقضاياهم وبتراثهم عبر حذف كل ما يتعلق بـ «ثقافة المقاومة»؟ أم ربما خوفا من التهم الجاهزة بمعاداة السامية المسلطة اليوم على رقاب كل من تسول له نفسه مهاجمة إسرائيل؟ في الهيئة العامة المصرية للكتاب التي تشرف على إصدارات مشروع القراءة للجميع نفى مسؤول ـ رفض ذكر اسمه ـ علمه بالنسخة المبتورة من كتاب المفكر المصري معللا ذلك انه ربما قد تم ذلك في فترة سابقة ورافضا في الوقت نفس مسألة تهويل الأمر، ويؤكد المسؤول أن هناك بعض الإصدارات التي تتعرض للمراجعة وحذف بعض منها أحيانا خاصة فيما يتعلق بالدين والجنس والسياسة، مضيفا أن السلسلة المقصود بها الأسرة والشباب على نحو الخصوص لذا فمن الضروري خضوعها للتدقيق والمراجعة كون المشروع تثقيفي تنويري قام عبر سنوات عمله بإحداث نقلة نوعية مهمة في العلاقة بين الكتاب والقارئ، ولا يوجد بيت في مصر اليوم يخلو من أحد إصدارات مشروع القراءة للجميع». أما المقال المحذوف فيختتمه صاحبه بقوله «إن الجوهر الأساسي في موقف الأمة العربية هو قوة الشعب وقوة الفكر عند هذا الشعب، وهو جوهر يتجانس مع الموقف التقدمي في أهم دعائمه، أي أن يكون الاعتماد الأساسي على الشعب وفكرته؛ وكذلك من الناحية الأخرى يتجانس الجوهر الأساسي في موقف إسرائيل ومثيله في موقف أميركا، فكلاهما يرتكز أساسا على إهمال الشعب وفكرته، مكتفيا بالسلاح وسطوته والمال وغوايته».
«لم يكن السؤال الضخم الذي ألقته الحضارات البشرية على نفسها هو: كيف يكون النصر في الحروب؟ بل كان: كيف يمكن التغلب على الحروب لتزدهر الحياة في ظل السلام؟ وهو سؤال جاءت محاولات الإجابة عنه في إحدى صور ثلاث: الصورة الأولى هي أن تحاول الدولة القوية بسط سلطانها على بقية العالمين ـ إذا أمكن ذلك ـ لتسكت فيها كل صوت للمعارضة، ومن ثم فهي تخرج من معارك الحروب بحالة من الصمت الأخرس عند المغلوب، وتخيل لنفسها أنها في حالة السلام المنشود، ولا عليها عندئذ أن تفرق بين استسلام وسلام؛ والصورة الثانية هي أن تعقد الدولة الراغبة في كتم أنفاس الآخرين، أحلافا مع مجموعات من دول تجد صوالحها محققة في التحالف معها، بحيث يكون لتلك الأحلاف من القوة ما يضمن لها أن تظل سيوف العداء مشلولة في أغمادها، فتعد هذا الشلل سلاما، مادام قد كفل لها امتناع القتال؛ والصورة الثالثة أن تسعى الدولة الراغبة في اجتناب الحرب نحو إقامة حالة من التوازن بين سائر القوى، لعل هذا التوازن أن يحقق السلام». لم يكن المقطع السابق سوى جزء من مقال كتب قبل أكثر من 30 عاما، لكنه يبدو طازجا وكأن صاحبه قد عايش النظام العالمي الجديد في ظل القطب الواحد أو شاهد الحرب على الإرهاب عبر الفضائيات، عايش عصر الدبابات الأميركية والإسرائيلية وهي تقتحم كابول وبغداد وغزة ورام الله. لكن ربما لا يثير الأمر أي دهشة حينما نعرف هوية كاتب هذه السطور، الذي تميز بقدرة كبيرة على التحليل واستشراف المستقبل وقراءة التاريخ والوقوف عند التفاصيل التي تتيح الرؤية المعمقة للأشياء والبحث الدائم والدؤوب عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم. لقد كتب المفكر والفيلسوف المصري زكي نجيب محمود (1905 - 1993) هذا المقال عام 1976 وضمنه كتابه «ثقافتنا في مواجهة العصر» الذي نشرته دار الشروق المصرية في العام ذاته. ويجتهد فيه محمود لسبر غور موروثنا الثقافي من ناحية ثم إمعان النظر في ثقافة العصر من جهة أخرى، بحثا عن وسيلة تلتقي بها الثقافتان عند أبناء الأمة العربية. وقد حمل المقال المذكور عنوانا كاشفا وعميقا وهو «العنصرية والعسكرية معا»، وفيه يتحدث عن تماهي المشروع الأميركي والصهيوني وتشابهه في الغايات والأهداف والمصير المحتوم حتى لو تلوى والتف حول ذاته وتسمى بتسميات مختلفة وعبر عن مواقف مغايرة. يقول زكي نجيب محمود: «إن جميع الحضارات التي سلفت وزالت، إنما تحطمت على إحدى الصخرتين، أو على الصخرتين معا، وهما: الروح العسكرية التي تميل بأصحابها إلى شن حروب لا تنقطع حتى ينهد كيانهم من الداخل، ثم الروح العنصرية التي قد يشتط بها أصحابها إلى إيجاد ضروب من التفرقة بينهم وبين سواهم من البشر، بحيث يجعلون لأنفسهم المكانة العليا في تلك التفرقات، ولغيرهم المكانة الدنيا؛ فإذا ما طبقنا هذه القاعدة الحضارية على الوجود الإسرائيلي، أيقنا بمصيرها المحتوم، لأنها جمعت بين القبيحين اللذين يعملان على هدم الحضارات ومحوها، إذ جمعت في كيانها: العسكرية والعنصرية معا». ورغم الدهشة من تحليل الفيلسوف المصري الذي عبر عنه قبل أكثر من ثلاثين عاما وبعد ما يقرب من تسع سنوات فقط على نكسة يونيو عام 1967، إلا أن المدهش حقا هو أن كتاب زكي نجيب محمود الذي أعيد نشره مؤخرا عبر مشروع «القراءة للجميع»، جاء مشوها ومبتورا إذ تدخل مقص الرقيب تدخلا مريبا نتج عنه حذف هذا المقال تماما من الكتاب والذي كان المقال الأخير والاكتفاء بـ21 مقالا حوتها نسخة مكتبة الأسرة ضمن المشروع المذكور، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات عن الأسباب التي دفعت الرقابة إلى حذف مقال محمود في هذا التوقيت بالذات. هل ربما لأن الكتاب ينتمي إلى مرحلة ما قبل اتفاقية كامب ديفيد التي ربما فرضت قيودا على مهاجمة إسرائيل ثقافيا وإعلاميا خاصة الإعلام الحكومي فكان لا بد من التخلص من أي إشارات عدائية تتعلق بالماضي؟ أم أن المطلوب العمل على تغيير وعي الشباب بقضاياهم وبتراثهم عبر حذف كل ما يتعلق بـ «ثقافة المقاومة»؟ أم ربما خوفا من التهم الجاهزة بمعاداة السامية المسلطة اليوم على رقاب كل من تسول له نفسه مهاجمة إسرائيل؟ في الهيئة العامة المصرية للكتاب التي تشرف على إصدارات مشروع القراءة للجميع نفى مسؤول ـ رفض ذكر اسمه ـ علمه بالنسخة المبتورة من كتاب المفكر المصري معللا ذلك انه ربما قد تم ذلك في فترة سابقة ورافضا في الوقت نفس مسألة تهويل الأمر، ويؤكد المسؤول أن هناك بعض الإصدارات التي تتعرض للمراجعة وحذف بعض منها أحيانا خاصة فيما يتعلق بالدين والجنس والسياسة، مضيفا أن السلسلة المقصود بها الأسرة والشباب على نحو الخصوص لذا فمن الضروري خضوعها للتدقيق والمراجعة كون المشروع تثقيفي تنويري قام عبر سنوات عمله بإحداث نقلة نوعية مهمة في العلاقة بين الكتاب والقارئ، ولا يوجد بيت في مصر اليوم يخلو من أحد إصدارات مشروع القراءة للجميع». أما المقال المحذوف فيختتمه صاحبه بقوله «إن الجوهر الأساسي في موقف الأمة العربية هو قوة الشعب وقوة الفكر عند هذا الشعب، وهو جوهر يتجانس مع الموقف التقدمي في أهم دعائمه، أي أن يكون الاعتماد الأساسي على الشعب وفكرته؛ وكذلك من الناحية الأخرى يتجانس الجوهر الأساسي في موقف إسرائيل ومثيله في موقف أميركا، فكلاهما يرتكز أساسا على إهمال الشعب وفكرته، مكتفيا بالسلاح وسطوته والمال وغوايته».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق