زكي نجيب محمود.. كيف كان يفكر؟!بقلم: د. سعيد اللاوندي
3/18/2012
.. في مرحلة سابقة ثار جدل واسع في الوسط الثقافي والفكري المصري المعاصر, الأول: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ والثاني: أيهما أكثر أهمية وتأثيرا عباس العقاد أم طه حسين؟.
وفي الاثنين كانت للدكتور زكي نجيب محمود إجابة محددة.
فقد قال عن السؤال الأول: لأننا نعتمد علي الكلامولوجيا, في حين يعتمد الآخرون في الغرب علي التكنولوجيا, وهذا معناه أننا نعتمد علي الأقوال( والشعارات) لا الأفعال.. وتلك كارثة كان لابد أن ندفع ثمنها غاليا.. وقد كان!!أما القضية الثانية, فقد كشفت الإجابة التي انشغل بها كثيرون في ذلك الوقت عن تيارين كبيرين في الثقافة المصرية: تيار العقاديون.. وتيار الطحاسنة! ومال كل تيار الي زعيمه مرجحا كفته ومؤكدا تأثيره الواسع واستقطابه للفكر المصري والعربي..
وكان فيلسوفنا الراحل زكي نجيب محمود ممن تابعوا هذا الجدل, وذهب الي أنه علامة صحة وعافية, لكنه توقف أمام إحدي محطات هذا الجدل الصاخب.. وهي المحطة التي ذكرها نفر من هذا التيار أو ذاك وتتعلق بعدد الكتب والمؤلفات التي تركها عباس العقاد وزميله طه حسين.. ومن الواضح أن هذا المعيار الكمي قد أزعج زكي نجيب محمود الي حد كبير.. خصوصا أنه لا يحسب علي تيار ضد آخر وانما هو من القلائل, في ذلك الزمان, الذي كان يميل الي الرجلين معا, فتأثر بالعقاد في شخصه وروحه, وعصاميته, وتأثر بطه حسين في جرأته, ومنهجيته وشغفه بالمعرفة.. ولذلك ظل يتأمل فكرة( الكمية) في الإنتاج الفكري والثقافي, إذ لا يعقل أن يكون العقاد أهم وأبعد تأثيرا في الأجيال من طه حسين لأنه وضع لنا مائة وستة من الكتب في شتي جوانب المعرفة.
.. وطه حسين أقل تأثيرا لأنه لم يترك لنا سوي ستة وخمسين كتابا, ورأي زكي نجيب محمود أن هذا المعيار( الكمي) قد يصلح في زراعة وانتاج البطاطس أو اللوبيا, لكنه لا يمكن اعتماده والتعويل عليه في دنيا الفكر.. إذ يكفينا في الميدان الأخير أن نقف عند الاتجاه الجديد الذي اختطه المثقف أو المفكر.. وارتياده الي مناطق لم تكن مأهولة ولم يتطرق إليها العقل قبله.. وهو ما يعني أن الإضافة الحقيقية لصاحب الفكر تتمثل في المنهج والطريقة والاتجاه وليس في العدد أو الكمية.
وفي اعتقادنا أن زكي نجيب محمود قد أصاب كبد الحقيقة لأسباب كثيرة, منها( مثلا) أن طه حسين( نفسه) لم تكن كل كتبه علي نفس القدر من الأهمية.. فكلنا يذكر أن كتابه الشهير( في الشعر الجاهلي) الذي أصدره في ثلاثينيات القرن الماضي وأحدث( هزة) فكرية في الأمة, وثار من أجله الثائرون هو أكثر مؤلفات عميد الأدب العربي بقاء وتأثيرا, لأنه اتبع فيه منهج الشك لديكارت.
ويذكر مؤرخو الأدب, أن طه حسين أصدر كتابه( ذاك) وأهداه الي رئيس وزراء مصر في ذلك الزمان, كما رأي أن يصدر الكتاب في أثناء رحلته الصيفية المعتادة لفرنسا.. لكن لا تحرقه نيران الثورة التي كان يتوقعها.. وكانت اندلعت المظاهرات التي حاول زعيم الأمة سعد زغلول احتواءها عندما هتف في المتظاهرين مؤكدا أن دين الله بخير, ثم قال ليمتص غضب الثائرين.. ماذا يضيرنا اذا لم يفهم البقر!!
.. علي أية حال المعيار الذي نود الإشارة إليه, والذي ركز عليه فيلسوفنا زكي نجيب محمود هو معيار الجرأة والفتح وارتياد الطرق الوعرة.. وهكذا كان كتاب في الشعر الجاهلي لعميد الأدب العربي.. وهو ما يعني انتهاء ـ أن المسألة لا تتعلق بالكمية لا من قريب ولا من بعيد, وعلي أثر ذكر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت, فالدارسون لسيرته العلمية والفلسفية يعرفون أنه وضع عدة كتب وألقي مئات المحاضرات, لكن أهمية هذا الفيلسوف لم تظهر إلا من خلال كتيب صغير بعنوان: مقال في المنهج حقق به فتوحات غير مسبوقة في دنيا الفلسفة, وأسس عبره للفلسفة الحديثة, وانتشر علي أثره مذهبه في الشك: أنا أشك إذن أنا موجود!.
.. والحق أن هذا المثال يؤكد فعلا لا قولا أن المعيار الكمي لا وجود له عند تقويم الفكر.... وفيلسوفنا الأبرز وعالم الاجتماع السياسي عبدالرحمن بن خلدون ترك لنا مآثر علمية لا حدود لها.. لكن يبقي كتابه الأشهر المقدمة في علم العمران هي درة التابع, فقد وضع بها أسس علم الاجتماع الذي سبق فيه علماء الغرب.. واذا توقفنا لحظة أمام عشرات بل مئات الدراسات التي دارت حول المقدمة لأدركنا أننا أمام عبقري من عباقرة المسلمين.
واذا أسرعنا الخطي وقلبنا في صفحات الإمام محمد عبده لوجدنا مؤلفات كثيرة يأتي علي قمتها كتاب: رسالة التوحيد الذي يعتبره الدارسون لسيرة محمد عبده( الكتاب) معرفا بالألف واللام.. وفي كل الأحوال اذا أردنا أن نطبق هذا المنهج الكيفي علي زكي نجيب محمود الذي ترك لنا عشرات الكتب وانشغل طوال سنوات عمره بها.. كان يكتبها مقالات مستفيضة تنشرها الأهرام في عصرها الزاهر ثم يقوم بتجميعها ـ بعد ذلك ـ في كتب.. أظن أنها ستبقي طويلا.. طويلا..
أقول اذا طبقنا هذا المنهج علي فيلسوف الوضعية المنطقية لوجدنا أن هناك ثلاثة كتب تمثل فكر وفلسفة هذا الرجل: الكتاب الأول أثار ضجيجا ولايزال.. وهو بعنوان: خرافة الميتافيزيقا الذي حاول جاهدا أن يودع فيه فلسفته التي تحمس لها ـ في بواكير أيامه ـ وتحديدا بعد عودته من الخارج حاصلا علي درجة الدكتوراه في الفلسفة...
الكتاب الثاني هو المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري, وهو كتاب أقسم أن كل من يقرأه قراءة جادة ورصينة وعميقة سوف يري في نفسه إنسانا آخر غير ذلك الإنسان الذي قرأ الكتاب لأول مرة.. ولاشك أن المنهج العقلي الذي يحرضنا زكي نجيب محمود علي الأخذ به في حياتنا اليومية, هو الهدف الذي وضع من أجله هذا الكتاب.. سيما أنه لاحظ أن مساحة اللامعقول في تاريخنا وتراثنا وحياتنا وتصوراتنا لمستقبلنا لا حدود لها.. فتألم كثيرا وكان هذا الكتاب من حصاد هذا الألم.
الكتاب الثالث هو تجديد الفكر العربي.. الذي يضع فيه الرجل قناعاته ومبادئه فهو مفكر عربي مهموم بالفكر في المنطقة العربية, ولا يميل مع أولئك الذين يريدون سلخ مصر من عالمها العربي أو محيطها الإسلامي..
أعتقد أن هذه الكتب الثلاثة هي التي تختزل لنا زكي نجيب محمود المفكر والفيلسوف.. صحيح أن للرجل عشرات الكتب الأخري ولا تقل أهمية عن هذه الكتب التي توقفنا عندها, لكن ـ في النهاية ـ لو لم يضع لنا زكي نجيب محمود هذه الكتب الثلاثة( خرافة الميتافيزيقا ـ المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري تجديد الفكر العربي) لوجدنا أنفسنا أمام شخص آخر غير هذا الفيلسوف الذي أخلص لحياة الفكر ووهب نفسه لفلسفته, وأنكر ذاته في مرات كثيرة.. فعندما رفض منصب وزير ثقافة مصر ـ وكان قد عرض عليه ـ فإنما كان يقول: إن حياة الفكر عندي لهي أفضل ألف مرة من الاستوزار.. وهو هنا يذكرنا بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد, الذي قيل إن رئاسة مصر كانت عرضت عليه فأبي واستمسك بحياة الفكر والتأمل..
فقد قال عن السؤال الأول: لأننا نعتمد علي الكلامولوجيا, في حين يعتمد الآخرون في الغرب علي التكنولوجيا, وهذا معناه أننا نعتمد علي الأقوال( والشعارات) لا الأفعال.. وتلك كارثة كان لابد أن ندفع ثمنها غاليا.. وقد كان!!أما القضية الثانية, فقد كشفت الإجابة التي انشغل بها كثيرون في ذلك الوقت عن تيارين كبيرين في الثقافة المصرية: تيار العقاديون.. وتيار الطحاسنة! ومال كل تيار الي زعيمه مرجحا كفته ومؤكدا تأثيره الواسع واستقطابه للفكر المصري والعربي..
وكان فيلسوفنا الراحل زكي نجيب محمود ممن تابعوا هذا الجدل, وذهب الي أنه علامة صحة وعافية, لكنه توقف أمام إحدي محطات هذا الجدل الصاخب.. وهي المحطة التي ذكرها نفر من هذا التيار أو ذاك وتتعلق بعدد الكتب والمؤلفات التي تركها عباس العقاد وزميله طه حسين.. ومن الواضح أن هذا المعيار الكمي قد أزعج زكي نجيب محمود الي حد كبير.. خصوصا أنه لا يحسب علي تيار ضد آخر وانما هو من القلائل, في ذلك الزمان, الذي كان يميل الي الرجلين معا, فتأثر بالعقاد في شخصه وروحه, وعصاميته, وتأثر بطه حسين في جرأته, ومنهجيته وشغفه بالمعرفة.. ولذلك ظل يتأمل فكرة( الكمية) في الإنتاج الفكري والثقافي, إذ لا يعقل أن يكون العقاد أهم وأبعد تأثيرا في الأجيال من طه حسين لأنه وضع لنا مائة وستة من الكتب في شتي جوانب المعرفة.
.. وطه حسين أقل تأثيرا لأنه لم يترك لنا سوي ستة وخمسين كتابا, ورأي زكي نجيب محمود أن هذا المعيار( الكمي) قد يصلح في زراعة وانتاج البطاطس أو اللوبيا, لكنه لا يمكن اعتماده والتعويل عليه في دنيا الفكر.. إذ يكفينا في الميدان الأخير أن نقف عند الاتجاه الجديد الذي اختطه المثقف أو المفكر.. وارتياده الي مناطق لم تكن مأهولة ولم يتطرق إليها العقل قبله.. وهو ما يعني أن الإضافة الحقيقية لصاحب الفكر تتمثل في المنهج والطريقة والاتجاه وليس في العدد أو الكمية.
وفي اعتقادنا أن زكي نجيب محمود قد أصاب كبد الحقيقة لأسباب كثيرة, منها( مثلا) أن طه حسين( نفسه) لم تكن كل كتبه علي نفس القدر من الأهمية.. فكلنا يذكر أن كتابه الشهير( في الشعر الجاهلي) الذي أصدره في ثلاثينيات القرن الماضي وأحدث( هزة) فكرية في الأمة, وثار من أجله الثائرون هو أكثر مؤلفات عميد الأدب العربي بقاء وتأثيرا, لأنه اتبع فيه منهج الشك لديكارت.
ويذكر مؤرخو الأدب, أن طه حسين أصدر كتابه( ذاك) وأهداه الي رئيس وزراء مصر في ذلك الزمان, كما رأي أن يصدر الكتاب في أثناء رحلته الصيفية المعتادة لفرنسا.. لكن لا تحرقه نيران الثورة التي كان يتوقعها.. وكانت اندلعت المظاهرات التي حاول زعيم الأمة سعد زغلول احتواءها عندما هتف في المتظاهرين مؤكدا أن دين الله بخير, ثم قال ليمتص غضب الثائرين.. ماذا يضيرنا اذا لم يفهم البقر!!
.. علي أية حال المعيار الذي نود الإشارة إليه, والذي ركز عليه فيلسوفنا زكي نجيب محمود هو معيار الجرأة والفتح وارتياد الطرق الوعرة.. وهكذا كان كتاب في الشعر الجاهلي لعميد الأدب العربي.. وهو ما يعني انتهاء ـ أن المسألة لا تتعلق بالكمية لا من قريب ولا من بعيد, وعلي أثر ذكر الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت, فالدارسون لسيرته العلمية والفلسفية يعرفون أنه وضع عدة كتب وألقي مئات المحاضرات, لكن أهمية هذا الفيلسوف لم تظهر إلا من خلال كتيب صغير بعنوان: مقال في المنهج حقق به فتوحات غير مسبوقة في دنيا الفلسفة, وأسس عبره للفلسفة الحديثة, وانتشر علي أثره مذهبه في الشك: أنا أشك إذن أنا موجود!.
.. والحق أن هذا المثال يؤكد فعلا لا قولا أن المعيار الكمي لا وجود له عند تقويم الفكر.... وفيلسوفنا الأبرز وعالم الاجتماع السياسي عبدالرحمن بن خلدون ترك لنا مآثر علمية لا حدود لها.. لكن يبقي كتابه الأشهر المقدمة في علم العمران هي درة التابع, فقد وضع بها أسس علم الاجتماع الذي سبق فيه علماء الغرب.. واذا توقفنا لحظة أمام عشرات بل مئات الدراسات التي دارت حول المقدمة لأدركنا أننا أمام عبقري من عباقرة المسلمين.
واذا أسرعنا الخطي وقلبنا في صفحات الإمام محمد عبده لوجدنا مؤلفات كثيرة يأتي علي قمتها كتاب: رسالة التوحيد الذي يعتبره الدارسون لسيرة محمد عبده( الكتاب) معرفا بالألف واللام.. وفي كل الأحوال اذا أردنا أن نطبق هذا المنهج الكيفي علي زكي نجيب محمود الذي ترك لنا عشرات الكتب وانشغل طوال سنوات عمره بها.. كان يكتبها مقالات مستفيضة تنشرها الأهرام في عصرها الزاهر ثم يقوم بتجميعها ـ بعد ذلك ـ في كتب.. أظن أنها ستبقي طويلا.. طويلا..
أقول اذا طبقنا هذا المنهج علي فيلسوف الوضعية المنطقية لوجدنا أن هناك ثلاثة كتب تمثل فكر وفلسفة هذا الرجل: الكتاب الأول أثار ضجيجا ولايزال.. وهو بعنوان: خرافة الميتافيزيقا الذي حاول جاهدا أن يودع فيه فلسفته التي تحمس لها ـ في بواكير أيامه ـ وتحديدا بعد عودته من الخارج حاصلا علي درجة الدكتوراه في الفلسفة...
الكتاب الثاني هو المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري, وهو كتاب أقسم أن كل من يقرأه قراءة جادة ورصينة وعميقة سوف يري في نفسه إنسانا آخر غير ذلك الإنسان الذي قرأ الكتاب لأول مرة.. ولاشك أن المنهج العقلي الذي يحرضنا زكي نجيب محمود علي الأخذ به في حياتنا اليومية, هو الهدف الذي وضع من أجله هذا الكتاب.. سيما أنه لاحظ أن مساحة اللامعقول في تاريخنا وتراثنا وحياتنا وتصوراتنا لمستقبلنا لا حدود لها.. فتألم كثيرا وكان هذا الكتاب من حصاد هذا الألم.
الكتاب الثالث هو تجديد الفكر العربي.. الذي يضع فيه الرجل قناعاته ومبادئه فهو مفكر عربي مهموم بالفكر في المنطقة العربية, ولا يميل مع أولئك الذين يريدون سلخ مصر من عالمها العربي أو محيطها الإسلامي..
أعتقد أن هذه الكتب الثلاثة هي التي تختزل لنا زكي نجيب محمود المفكر والفيلسوف.. صحيح أن للرجل عشرات الكتب الأخري ولا تقل أهمية عن هذه الكتب التي توقفنا عندها, لكن ـ في النهاية ـ لو لم يضع لنا زكي نجيب محمود هذه الكتب الثلاثة( خرافة الميتافيزيقا ـ المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري تجديد الفكر العربي) لوجدنا أنفسنا أمام شخص آخر غير هذا الفيلسوف الذي أخلص لحياة الفكر ووهب نفسه لفلسفته, وأنكر ذاته في مرات كثيرة.. فعندما رفض منصب وزير ثقافة مصر ـ وكان قد عرض عليه ـ فإنما كان يقول: إن حياة الفكر عندي لهي أفضل ألف مرة من الاستوزار.. وهو هنا يذكرنا بأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد, الذي قيل إن رئاسة مصر كانت عرضت عليه فأبي واستمسك بحياة الفكر والتأمل..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق