الخميس، 7 يونيو 2012

<><> <><> <><>
تحت غطاء الصندوق العدالة عمياء!

بقلم د. نوال السعداوى


    ٥/ ٦/ ٢٠١٢

<><> <><> <><>
سأقول لكم، دون النظر لمؤيدى الدولة الدينية أو مؤيدى الدولة المدنية، أو ما بينهما نعم، غابت الحقيقة الساطعة كالشمس، تحت دخان المباخر وتعاويذ الملائكة والشياطين، وأوراق رجال القانون والدين والسياسة والائتلافات، ونظريات الأحزاب.
محاكمة القرن (فى مصر يونيو ٢٠١٢) تشبه محاكمة «فرانز كافكا» فى القرن الماضى، لا ترى وجه القاتل من شدة الضباب فى القصر، وينتهى الأمر بأن يصبح المقتول فى الشارع هو القاتل داخل القصر، باعتبار أن العدالة عمياء لا ترى الحقيقة، والقانون هو الحكم العادل حسب الدستور.
هل هناك حقيقة أكثر وضوحاً من دم الشعب المسفوح فى الشوارع والميادين، والأنوف المخلوعة والعيون المفقوءة بالآلاف، والأمهات الثكالى بأبنائهن القتلى والمفقودين، والأطفال الجوعى فى الشوارع بالملايين؟
الحقيقة هى الدم والأجساد فى الشوارع، وليس الحبر على الورق فى حقائب المحامين ودوسيهات القضاة ودواليب المحكمة وسراديب القانون
فى كل عهد هناك المقدس والمدنس
القوة الحاكمة السياسية هى التى تحدد للشعب ما هو المقدس وما هو المدنس، ما هو القانونى وغير القانونى، ما هو الشرعى وغير الشرعى، أما الحقيقة فهى تدفن فى التاريخ، حتى يملك الشعب كتابة التاريخ بنفسه حتى تملك الأم المنكوبة القلم، وتكتب تاريخ حياتها بنفسها، لكن الأمهات المنكوبات أو الشعوب، لا تملك كتابة التاريخ دون أن تتعلم الكتابة، وكم من شعوب تدفن فى التاريخ لأنها لم تعلم نفسها، واعتمدت فى تعليمها على القوى الحاكمة، تندثر بعض الشعوب كما انقرضت الديناصورات لأنها لم تكتب تاريخها، لأنها لم تتعلم الحرية والعدالة والكرامة منذ الولادة،
إن التعليم هو الجهاز البوليسى لإخضاع العقول للحكم القائم، وقبول الظلم باعتباره العدل، تتحول التناقضات إلى مقدسات، تصبح الطاعة فضيلة والعبودية قمة الأخلاق، والعدالة تصبح عمياء تحت اسم القانون الحاكم.
يقول الحاكم أنا الإله الذى يحكم بالعدل، أنا الحقيقة ومن لا يرانى فهو كافر أو خائن للوطن، غابت الأدلة المادية والبراهين الموضوعية، غاب المنطق والبديهيات، وأصدرت المحكمة حكمها بقوة القانون المزدوج منذ نشوء العبودية حتى اليوم، تحكمنا قوانين مزدوجة، مروراً بالعصور الملكية والجمهورية، حتى عهد مبارك والمجلس العسكرى، الحاكم من بعده ومعه القوى السياسية الطافية فوق السطح، الوجوه المزدوجة، تدربوا على التناقض باسم الحكمة أو القانون أو الدين أو السياسة، العلماء والفقهاء والحكماء، الأساتذة فى الجامعات والمدارس، يعلمون الأطفال الطاعة لرب العائلة فى الدولة والبيت، من علمك حرفاً صرت له عبداً، اليد التى تطعمك الثمها وقبلها، يتعلم الأطفال المهانة والذل والنفاق للسلطة، وأنا أقول لك أيها الإنسان المصرى المولود بعد الثورة، الطفل أو الشاب أو الشابة فى أى عمر، لا تصبح عبداً لأى معلم أو حاكم أو رب عائلة، لا تنحن لتقبيل أى يد، اليد التى تطعمك (لو أهانتك) اضربها، نعم اضرب اليد التى تطعمك لو فرضت عليك الطاعة أو العبودية، هذا أول درس فى الكرامة، لا تنكسر عينك لمن يعطيك المصروف. رأيت فى طفولتى الفلاحين يقبلون يد العمدة الذى يسرقهم، ورأيت الطفل يقبل يد الأب الذى يجلده، لكنى سمعت أبى يقول لنا ولغيرنا من الأطفال: طاعة الحاكم رذيلة وليست فضيلة، وتقبيل اليد التى تطعمك فى البيت أو الدولة عبودية.
بعد الثورة المصرية التى أسقطت رأس النظام (وبقى جسد النظام قائماً نشطاً فى جميع المؤسسات) يطالبنا الحكام الجدد فى الحكومة والمعارضة، بالتسليم بنتائج الصندوق ومحكمة القرن، ويتهمون من يقاطع الانتخابات بأنه كافر بالديمقراطية، ومن يرفض حكم المحكمة (محاكمة مبارك وأعوانه) بأنه ضد العدالة والقانون.
فى الخامسة من عمرى سمعت العمدة، القابض بيديه على كتاب الله يقول للفلاحين الثائرين ضد الملك والإنجليز: يا كفرة، لا تعرفون الله، يا جهلة يا أميين، لم تقرأوا كتاب الله قال له الفلاح الفصيح: يا عمدة، الله هو العدل عرفناه بالعقل وليس الله كتاباً يخرج من المطبعة.
الشلل السياسية والدينية والأدبية الجاهزة فى كل عهد، التقليدية والحديثة، من الطبقات المستريحة فى بيوتهم المتينة، الصامدة فى وجه الرياح والعواصف، يقطفون ثمار أشجار لا يزرعونها، وثمار ثورات لا يذرفون فيها دمعة عين أو قطرة دم، يملكون الثقافة والتعليم والإعلام والأدب والدين والطب والكتب (منها كتب الله)، بسرعة يجعلون أنفسهم بعد الثورة، وسطاء بين الحاكم الجديد والشعب الثائر، يعينون أبناءهم وبناتهم فى المناصب المعروضة، والتكتلات المتاحة والأحزاب الجديدة، المفصلة عليهم والمطيعين والمريدين والأتباع، يجتمعون من وراء الأبواب المغلقة فى القاعات النظيفة، بعيداً عن زبالة الشارع وميدان التحرير، بعيداً عن رائحة عرق الجوعى والأطفال، والأمهات الراقدات فوق الأسفلت، المقتولات فى الحر والبرد، دم أبنائهن شربه التراب والطين، عيونهن نزفت وجفت وتقيحت، والعيون النضرة تلمع بالنجاح والأمان، تتلصص من وراء نوافذ سياراتهم المغلقة بأحكام، يصدرون ما يكتبون من وثائق أو بيانات إلى أبواق الإعلام، باعتبارهم مندوبى الشعب والثورة، يقولون الثورة المجيدة، والانتخابات التاريخية غير المسبوقة، الصندوق مقدس، والقضاء شامخ مستقل، ثم يتمطع الجبل فيلد فأراً، وتتمخض المحكمة عن حرباية، صفراء رمادية بلا لون، تبدو الإدانة كالبراءة أو نصف البراءة، والسجن المؤبد كالإفراج المؤقت أو نصف الدائم، كل شىء زائل إلا وجه ربك، تغيب الحقيقة الساطعة كالشمس، تنطلق الأبخرة والتعاويذ من المؤمنين وغير المؤمنين، يتمشى الحكام الجدد بأروابهم القشيبة، مختالين بالحكمة الإلهية وقداسة القانون، العدالة عمياء، لا ترى الحقيقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger