الأربعاء، 3 أكتوبر 2012

مدنية‏..‏ أي علمانية‏..‏ أي ديمقراطية


أحمد عبد المعطي حجازي

بقلم: أحمد عبد المعطي حجازي

تحدثت في مقالتي السابقة عن الدولة المدنية‏,‏ وعن الظروف والأسباب التي سمحت بقيامها‏
 
. ووقفت أمام الشروط التي لابد أن تتوفر في الدولة حتي تكون دولة مدنية, فذكرت منها شرطين هما المواطنة, والعلمانية. ووعدت بالحديث اليوم عن الشروط الأخري ومنها حكم القانون, والديمقراطية.
وأنا أبدأ حديثي اليوم فألفت النظر إلي أن هذه الشروط كلها وجوه مختلفة لكيان واحد. وأن أيا منها لا يمكن أن يوجد بعيدا عن الآخر. فالمواطنة لا تتحقق بعيدا عن الديمقراطية. والديمقراطية لا تتحقق في غياب العلمانية أو في الفوضي وغياب الدستور والقانون. والدولة المدنية ليست إلا أن تتحقق هذه الشروط كلها مرة واحدة. لأن كلا منها يستدعي الآخر ويتجلي فيه.
الدولة المدنية نظام يقيمه المواطنون الأحرار بأنفسهم من أجل أنفسهم. وبما أن الدولة المدنية نظام مختار فهي عقد أو دستور يتضمن ما هو أساسي ومشترك بين الجماعة الوطنية كلها وليس بين فرقة أو طائفة أو طبقة أو ديانة ولو كانت هي الأغلبية. فهو يحدد طبيعة الدولة, ونظامها الحاكم, وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية, وحقوق المواطنين وواجباتهم.. وعلي أساس هذا الدستور تسن القوانين التي تتحول بها مواد الدستور إلي نظم وسياسات ومعاملات وبرامج ومؤسسات تجسد مدنية الدولة, أي صدورها عن المجتمع المدني الذي أقامها وتعبيرها عن مطالبه. فالدولة المدنية هي بيت المواطنين وليست سجنهم. وبيت المواطن يبنيه المواطن بكامل حريته وإرادته, ويدير شئونه بنفسه. وهو يختلف بالطبع عن السجن الذي يفقد فيه السجناء حريتهم.
من هنا لابد أن يكون قانون الدولة المدنية قانونا وضعيا. لأن الأمة في الدولة المدنية هي مصدر السلطات, وفي مقدمة هذه السلطات السلطة التشريعية التي تتولي وضع القوانين. ولأن القانون ينظم العلاقات ويحدد لكل طرف دوره ومكانه, ويضع الحدود لأوجه النشاط والسلوك, ويخضع بالتالي للمقاييس الأخلاقية والعملية التي تتطور مع الزمن الذي يتطور ويتغير. وبهذا تختلف قوانين الدولة المدنية عن القوانين التي يفرضها الحكام ورجال الدين في الملكيات المستبدة والنظم البوليسية والعسكرية والدينية, ويخلطون بينها وبين قوانين الطبيعة والشرائع السماوية, ويزعمون أنها ثابتة وصالحة لكل زمان ومكان كما يفعل الذين يريدون أن يجعلوا الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للقوانين فيصادروا بذلك حق المصريين جميعا, مسلمين وغير مسلمين, في وضع قوانينهم وتعديلها وتغييرها, ويختزلوا الديمقراطية في الانتخابات التي لا تعطينا الحق إلا في اختيار سادتنا!
إن انتزاع حقنا في وضع القانون يجعلنا عبيدا للذين اختصوا أنفسهم بتفسير الشريعة وتقنينها وتطبيقها, ولم يتركوا لنا إلا أن ننتخبهم ونرضي بحكمهم الذي لا يحق لنا أن نغيره لأن القوانين التي جاءت به ليست من وضعنا ولا من صنعنا.
هكذا تختزل الديمقراطية في انتخابات لا نفاضل فيها بين حزب وحزب أو بين برنامج وبرنامج آخر, وإنما نفاضل بين الجنة والنار فنختار الجنة طبعا ومعها بعض السلع التي توزع علينا بالمجان, كما حدث في انتخابات مجلس الشعب التي شهد لها الكثيرون بالنزاهة, لكنها مع نزاهتها هذه لم تكن ديمقراطية لأن الديمقراطية لا تختزل في الانتخابات ولا تقبل الخلط بين السياسة والدين. والدولة التي لا تكون ديمقراطية أو تكون الديمقراطية فيها علي هذا النحو لا تكون دولة مدنية.
وقد سبق أن قلنا إن الدولة المدنية هي الدولة التي يقيمها أهل المدينة لتحمي مصالحهم وتمثل ارادتهم المشتركة التي تعلو إرادة كل فرد فيهم, علي عكس الدولة البوليسية أو الدولة الدينية التي يفرضها حكامها علي رعاياهم فرضا ويهبطون بها عليهم من أعلي إلي أسفل.
النظام في الدولة المدنية عقد أو دستور أو قانون يضعه أهلها. والحاكم في الدولة المدنية مختار منتخب يؤدي الوظيفة التي انتدبه لها أهلها. أما في الدولة الدينية فالحاكم يعتبر نفسه مفوضا من الله. لأن البابا في الدول المسيحية توجه وباركه, أو لأنه في الدول الإسلامية قرشي, أو من أبناء العباس, أو من أبناء علي. أو لأنه قائد الجيش أو الوريث!
ولقد نظر فلاسفة العصور الوسطي المسيحيون والمسلمون للدولة بوصفها صورة مصغرة من الكون.
وكما أن الكون صدر عن الخالق وبدأ منه فكذلك صدرت المدينة أو الدولة عن الحاكم أو الملك أو الأمير الذي اختاره الله, ولم يختره سواه ليحكم بأمره ويطبق شريعته. فمكان رئيس الدول في دولته هو مكان الله في الكون. وفي هذا يقول الفارابي إن السبب الأول( الله) نسبته إلي سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلي سائر أجزائها. وهذا المعني يتكرر عند الماوردي, وابن أبي الربيع. ولمن شاء الاستزادة أن يرجع إلي كتاب الأخلاق والسياسة للدكتور إمام عبد الفتاح إمام.
هؤلاء المفكرون المسلمون يعتقدون جميعا أن سلطة الحاكم في الدنيا مستمدة من الله, وأنه بمثابة الأب للرعية التي لا وجود لها إلا بوجوده. فإذا كان الحاكم في الدولة الدينية هو السبب الأول وهو الأصل الخالق فالدولة الدينية لا تعرف الديمقراطية التي قلبت الآية أو عدلتها فرأت أن الشعب هو الأصل, وأن الأمة هي مصدر السلطات.
فإذا كانت الدولة المدنية نظاما حديثا لم يعرفه الأوروبيون إلا منذ ثلاثة قرون فهو بالنسبة لنا نظام أحدث لم نعرفه علي حقيقته حتي الآن. لأنه ثقافة يجب أن نهضمها وتاريخ يجب أن نتمثله, وإلا فالأسماء لا تشتري. وكما يحب العرب أن يتلطفوا فيسموا العبد قمرا, ويسموا الأعمي بصيرا فهم يصنعون بالمثل فيجعلون الشريعة دستورا, والشوري ديمقراطية, والخلافة العباسية دولة مدنية!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger