الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

بلدان العالم النامي .. الرقابة والانطلاق الفكري
-->
الأحد, 14 أكتوبر 2012 13:54
يعاني أصحاب الرأي من الرقابة الاجتماعية والسياسية الرسمية وغير الرسمية في كل أرجاء العالم، وعلى وجه الخصوص في بلدان العالم النامي. وأحيانا تكون ممارسة الرقابة صريحة وأحيانا يكون الإفصاح عنها ضمنيا.
وكلما ازداد صاحب الرأي جرأة في الإعراب عن رأيه ازدادت الرقابة قوة وزاد احتمال أن تكون الرقابة أكثر صراحة وأن تكون صادرة عن مصادر رسمية.
ويمكن أن يكون صاحب الرأي الإنسان العادي أو المواطن أو المتكلم أو الكاتب أو الشاعر. ويمكن أن يكون كل شيء خاضعا للرقابة. وكلما كانت المواضيع التي يتناولها الرأي أكثر حساسية من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية خضعت تلك الآراء لقدر أكبر من الرقابة.
وشعور صاحب الرأي - سواء كان متكلما أو كاتبا أو مؤلفا أو أي شخص آخر - بان الإعراب عن رأيه من شأنه أن يعرضه للمشاكل أو للمساءلة يضعف لديه نشوء الرأي وتطويره ويوهن لديه أيضا الحافز على الإفصاح عنه.
وإذا كانت حاجات الشعب أو الدولة تتطلب الإعراب عن الرأي في إمكانية تلبية هذه الحاجات وتقليب الرأي في تلك الإمكانية فإن الرقابة وتخوف صاحب الرأي من الإعراب عن رأيه أو التردد في هذا الإعراب من شأنهما أن ينالا من إمكانية تلبية الحاجات.
والحالة المثالية فيما يتعلق بإمكانية الإفصاح عن الرأي هي أن يمارس الحد الأدنى الضروري من الرقابة. ونصف هذه الحالة بالحالة المثالية لأنه كلما ازداد دور الرقابة انكماشا زاد القدر من الحرية المتاح للمواطنين وازداد شعورهم قوة بتمتعهم بالحرية، وبالتالي قلت الاحتقانات الاجتماعية والثقافية والنفسية وتعزز لديهم الميل إلى التناول الإيجابي للقضايا وازادادت لديهم ملكة الإبداع تطورا وقوة.
وتوجد ظاهرة تستحق الاهتمام الأكبر بالنظر إلى خطورتها على حرية الفكر وحرية التعبير. والظاهرة هي أنه في أحيان غير قليلة لا توجد علاقة قوية بين رقابة الرقيب نفسه والرقابة التي ينص عليها القانون أو التي تريد السياسة الحكومية تحقيقها. إن قانون الرقابة قابل للتفسير. وسياسة الحكومة قابلة للتفسير. وللرقيب دور كبير في تفسير القانون والسياسة، وفي تحميلهما مضامين معينة. وتطبيق أو تنفيذ الرقيب لقانون الرقابة تفسير من تفاسير القانون. ويمكن أن يكون التفسير خاطئا أو أن يكون سترا يتستر في ظله الشخص الممارس للرقابة ليقوم هو بإجراء يخدم به مصلحته وهواه دون صلة بمضمون القانون أو السياسة. في الحالة الأخيرة يتوسل الشخص الممارس للرقابة بوسيلتها خدمة لأغراض في نفسه. ونظرا إلى دور الرقيب في فهم وتفسير القانون والسياسة فإن هذا الفهم والتفسير يتوقفان على شخصية الرقيب. فيمكنه أن يوسع نطاق الرقابة أو أن يضيقه وأن يبدي التشدد أو المرونة في تنفيذ القانون. والحقيقة أنه تتوقف مرونة الرقيب أو تشدده على عوامل لعل أهمها المناخ السياسي. والعامل الآخر هو مدى تقدير العاملين في جهاز الرقابة للحرية الفكرية ولللإبداع والفن والأدب. ومن شأن عدم تقدير هؤلاء أن يوجد فجوة أو أن يزيد الفجوة اتساعا بينهم وبين المبدعين.
ومما يزيد من خطورة الرقابة طريقة إصدار التوجيهات الرقابية. فهذه التوجيهات قد تأتي مكتوبة أو شفوية أو سرية أحيانا. إن ورود التوجيهات على نحو غير مكتوب من شأنه أن يتيح للرقيب أن يكون له دور أكبر وحيز أكبر في تفسير الأنظمة كما يفهمها وكما يحلو له أن يفهمها.
ويكمن في الرقابة عنصر التقييد. فما دامت موانع الرقابة تحظر البوح بالأفكار والعواطف فإن هذه الأفكار والعواطف تبقى مقيدة. ونظرا إلى معرفة أصحاب الرأي للحدود التي تحددها الرقابة فإن كثيرا منهم يراعون تلك الحدود التي، كما يدل معناها، تحد الانطلاق الفكري وتضيق الآفاق التي يمكن لفكر الانسان أن يجول فيها.
وتناول أو معالجة القضايا يمكن أن تكون مباشرة أو غير مباشرة. وعدم مباشرة التناول طريقة يطرقها بعض الناس في ظروف منها عدم مؤاتاة المناخ الاجتماعي بأبعاده السياسي والاقتصادي والثقافي والنفسي لاتباع التناول المباشر. يمكن أن يكون هذا المناخ ضاغطا أو مقيِّدا أو إملائيا. ويضرعدم التناول المباشر ضررا كبيرا بمصلحة الشعب. فعدم التناول المباشر يقلل قوة الإفصاح عن المضمون الفكري والشعوري. فالرسالة المنقولة مباشرة أشد فعالية في الإفصاح من الرسالة المنقولة على نحو غير مباشر. إن طريقة النقل غير المباشر حلقة من حلقات النقل من المرسل إلى المرسل إليه. وكلما ازدادت حلقات النقل عددا قلت قوة الرسالة المرسلة. وعن طريق التعويد على التناول غير المباشر تنشأ ثقافة التناول غير المباشر للقضايا.
ولشيوع ثقافة التناول غير المباشر آثار سلبية جدا. بهذا الشيوع يتسم كثير من ضروب السلوك بعدم التصدي المباشر للقضايا. في ظل هذه الثقافة يقل شعور المرء بالمسؤولية المباشرة عن عمله وعمل الآخرين، ويقل الدافع لدى المرء إلى المنافحة عن القضايا العادلة وإلى انتقاد الحالات المعيبة، ويتعزز لدى الإنسان الميل إلى التهرب من تحمل المسؤولية وإلى عزو العيوب إلى آخرين ويتشجع الناس على التحايل على الأنظمة. وهذه صفات ليست طبيعية. وكلما ازدادت القيود والإملاءات التي يتضمنها ذلك المناخ خفة قل تحايل الناس وازداد تناولهم للأشياء مباشرة وازداد العنصر الطبيعي في سلوكهم قوة.
ولدى الناس كلهم القدرة على التكيف مع المناخ الاجتماعي السائد. ويختلفون بعضهم عن بعض في مدى هذه القدرة التي تتأثر هي نفسها بذلك المناخ. والتناول غير المباشر وصفات خلقية أخرى من هذا القبيل أنواع أخرى من التكيف. ومن الجلي أن هذا التكيف ليس سليما من الناحية الخلقية. والتكيف الأفضل هو التكيف مع المناخ السياسي والثقافي والنفسي الذي يشجع على التخلق بالأخلاق الوطنية والقومية والدينية والإنسانية الرفيعة.
وثمة علاقة بين ذلك المناخ والإبداع. ينشأ الإبداع بتوفر عوامل منها شعور المرء بتحرره النفسي والعاطفي والفكري والاجتماعي والسياسي. وكلما ازدادت وطأة ذلك المناخ ثقلا وازداد شعور المرء بأثر ذلك المناخ فيه زاد احتمال أن يكون ذلك المناخ عاملا أشد أثرا في عرقلة الانطلاق الإبداعي. وحتى يكون الإنسان منطلقا وحتى يعيش حياة بطريقة هي أقرب إلى الطريقة الطبيعية ينبغي للقوى الاجتماعية المختلفة ألا تضطره إلى القيام بقدر كبير من التكيف، فقدر كبير أكثر مما ينبغي من التكيف في السلوك والموقف والشخصية يجرد الإنسان من جوانب من ذاته ومن طبيعته.
ومما يثقل أيضا من عبء الرقابة على المفكرين والمبدعين تدخل أوساط ليست جزءا من جهاز الرقابة في توجيه عمل الرقابة. وتقوم هذه الأوساط بهذا التدخل منطلقة من خدمة مصالحها الاقتصادية أو التجارية أو خدمة لرؤاها. وفي ضوء ذلك كله فإن واقع الرقابة لا يرتبط بالضرورة ارتباطا قويا بنصوص قانون الرقابة. فقرارات المنع والإجازة التي يفترض أن تكون مستندة إلى ذلك القانون ليست كذلك دائما.
وأحيانا توضع مواد قانون الرقابة أو يعدل هذا القانون بتأثير عدد محدود من الناس الذين قد لا يولون الاعتبار الكافي للأثر الذي يترتب على تنفيذ القانون في حياة الناس الفكرية وفي وعيهم أو في تعطيل النشاط الفكري وفي تقييد النشاط الإنساني عموما. ومن وجوه السلوك الشديد الأثر والخطر أن تقوم جماعة، وهي مدفوعة بالنهوض بمصالح خاصة ضيقة، بوضع قوانين ولوائح تدعي تلك الجماعة بأنها تقصد بها (أي القوانين واللوائح) خدمة الشعب.
وفي ظل الظروف التي تمارس فيها التوجيهات الرقابية كان للرقابة أثر مبطئ لانطلاق الإبداع ومقيد للفكر. تلك الظروف جعلت الشخص المبدع يحاول أن يوازن بين عالمه والعالم الذي حوله وأن يتعامل ويتكيف مع العالم الذي حوله. وانطوت تلك المحاولة على النيل من انطلاقه وعلى تقييد فكره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger