استدراج الإخوان إلى الورطة
مختار الدبابي
حقق إسلاميو تونس ومصر حلم آلاف المنخرطين في التنظيمات الإخوانية بالمنطقة في الوصول إلى الحكم، وتتويج مرحلة طويلة من المواجهات والتضحيات والمحن والسجون بـ"التمكين".
كانت مفاجأة، ولا شك، أن يصل الإخوان إلى الحكم في ظل استغراق الجهد في المواجهات الأمنية والتحضير للانقلابات وتوفير شروط العمل السري، وفي ظل عداء تام من الأنظمة العربية، وتحفظ من الدول الكبرى.
لقد فرضت مرحلة ما قبل "التمكين" على الإخوان أن يفكروا فقط في الحفاظ على التنظيم، وتأمين قياداته، وبناء أجهزة خاصة لتحقيق الحلم بالقوة في اللحظة الصفر.
ولذلك يعترف الكثير من الإخوان أنهم لم يجدوا الوقت للتفكير الاستراتيجي، ولا لبناء خطاب ثقافي يتأسس على العقل والنقد، ولم يكلفوا أنفسهم التأسيس لمقاربة اقتصادية مرتبطة بالعصر وتعقيداته، واكتفوا في كل هذا بترديد الآيات والأحاديث وبعض كلام الفقهاء في قضايا قديمة.
وحين جاءت الثورات المباغتة في تونس ومصر دفعت بالإخوان إلى الواجهة، فلم يجدوا الوقت للتفكير في أي شيء، خاصة ان بناء منظومة فكرية في مجالات استراتيجية، كالثقافة والاقتصاد، تحتاج إلى تراكم في التجارب والأصوات.
وهنا كانت الورطة التي اختارها الإخوان لأنفسهم بالارتماء على السلطة والإمساك بها كليا مستفيدين من تعاطف الناس مع محنتهم الطويلة، ومن كونهم يتبنون شعار "الإسلام هو الحل".
والمفارق هنا، أنهم لم يتركوا للناس الوقت كي يختبروا قدرة هذا الشعار على الصمود، وبادروا بأنفسهم إلى نقضه تحت شعار "الضرورات تبيح المحظورات"، فأفتوا بجواز الربا والاقتراض من المؤسسات المالية الدولية التي طالما قالوا إنها قبضة أميركية للهيمنة على العالم.
قد يتفهم البعض تحليلهم للربا من باب البراغماتية التي يحتاجها "الثوريون" ظرفيا لتثبيت أنفسهم، لكن لا أحد يتفهم كيف يمكن لتيار الإخوان أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى متصالح مع آليات الهيمنة الأميركية على العالم.
ألم يكن من الممكن الاقتراض من بنوك عربية وإسلامية "وإنْ كانت ربوية"، أو من بنوك صينية أو يابانية أو أوروبية، ولماذا بالذات البنك الدولي وصندوق النقد؟
لقد راهن الإخوان، بمختلف تشكيلاتهم التنظيمية القطرية والدولية، على ترضية أميركا ومهادنتها للوصول إلى السلطة لأنها قطعت الطريق على نوايا انقلابات كانوا يعتزمون تنفيذها في أكثر من بلد، وقابلت الإدارة الأميركية هذه المهادنة بمهادنة مثلها.
لكن نتيجة المهادنة هي ما يحدد درجة الربح والخسارة في الجانبين.
وفيما وصل الإخوان إلى السلطة بفضل هذه المهادنة أو المخاتلة، فإنهم وجدوا أنفسهم أمام فوهة بركان في بلدان مخربة ومفقرة ومرتهنة كليا للخارج، وليس مستبعدا أن يخرجوا سريعا من الحكم لأنهم لم يقدروا على حل مشكلات الناس وتوفير حاجاتهم إلى العمل والخبز والدواء.
لكن المهادنة الأميركية أفضت إلى نتائج مهمة استراتيجيا؛ فقد استدرجت الإخوان إلى السلطة، عبر انقلابات بيضاء في مصر وتونس "غيّرت وجه الثورة وجيرتها لصالح أميركا".
كانت إدارة أوباما تعرف أن أي انتخابات ديمقراطية سيفوز بها الإسلاميون، وتعرف، أيضا، أن الإسلاميين لا يمتلكون برامج وخططا لإدارة مرحلة ما بعد التركة الخربة التي تركها مبارك وبن علي، وأنهم سيكونون مضطرين للهاث وراءها كي تدعمهم.
وتكون بذلك قد حققت هدفا بالغ الأهمية، وهو أنها أثبتت للعالم أن الخط الإخواني ليس بديلا عن الهيمنة الأميركية، وإنما جزء من الهيمنة ذاتها حتى وإنْ بدا نقيضا لها في خلفياته وأدبياته.
وهي حقيقة بدأت تتضح خلال الأشهر الأخيرة التي تسلم فيها إخوان تونس ومصر السلطة سواء ما تعلق بالحفاظ على عملية السلام، أو التوافق في الموقف من مقاومة الإرهاب، أو في الملف السوري.
هذا التماهي الإخواني، غير المبرر ولو تكتيكيا مع الخيار الأمريكي يهدد بأن يفقدهم القاعدة الانتخابية التي صعدوا بها إلى السلطة.
وهناك تحليلات تستند إلى معطيات من داخل البيت الأبيض، تقول إن واشنطن تريد أن تروض الإسلام الإخواني وتدعمه عبر المؤسسات المالية التابعة، لينهض بمهمة محاربة السلفية المتشددة وتعبيرتها الجهادية تنظيم "القاعدة" بعد أن استنفدت كل السبل للقضاء عليها.
وبذلك تكون إدارة أوباما قد نجحت في تغيير أنظمة تقليدية مترهلة وفاقدة للشرعية بأنظمة جديدة تحوز على الشرعية وتقدر على أداء دورها بحماس ديني بالغ.
ومن المهم التأكيد أن الاستدراج الأمريكي للتيار الإخواني لم يكن مجرد صدفة، وإنما ناتج عن قراءة أمريكية لطبيعة هذا الحركات التي يصرح زعماؤها لدى زيارتهم إلى الغرب بتبنيهم لخيار السلام مع إسرائيل ومحاربة الإرهاب "السلفية"، وحين يعودون إلى بلدانهم يتحولون إلى غلاة الثوريين.
وليس تجنيا القول إن الإخوان هم من استدرجوا أنفسهم للشرك الأمريكي حين ارتموا على السلطة ليحكموا الناس بالنوايا الحسنة، مع أن النصائح التي وجهت لهم من الأصدقاء والأعداء تقول لهم اتركوا السلطة الآن واهتموا ببناء أنفسكم وتدريب قواعدكم على المدنية والحوار والارتباط بالواقع.
كان يمكن أن يكون الإخوان جزءا من سلطة وطنية توافقية حقيقية تهدف إلى إنقاذ اقتصاديات البلدان التي طالتها الثورات، وتكون مهمتها بناء الثقة مع الأطراف المحلية والدولية، وليس تخويفها بالشعارات ومحاولة التدخل في شؤون الآخرين وفرض "ثورات" عليهم.
كان يمكن، أيضا، أن يختار الإخوان بشجاعة أن يكونوا قوة معارضة تعدّل مسار الثورة ويثبتوا لخصومهم وللمتخوفين منهم أن غايتهم الإصلاح وليس السلطة.
والإصلاح مهمة طويلة النفس تعود ثمرتها على الأجيال القادمة، أما السلطة فتعني تغليب البراغماتية على المبدأ، والتخلي عن حلم "مشروع النهضة" بما يعنيه من خلق شروط فك الارتباط عن قوى الهيمنة فعلا لا قولا.
حقق إسلاميو تونس ومصر حلم آلاف المنخرطين في التنظيمات الإخوانية بالمنطقة في الوصول إلى الحكم، وتتويج مرحلة طويلة من المواجهات والتضحيات والمحن والسجون بـ"التمكين".
كانت مفاجأة، ولا شك، أن يصل الإخوان إلى الحكم في ظل استغراق الجهد في المواجهات الأمنية والتحضير للانقلابات وتوفير شروط العمل السري، وفي ظل عداء تام من الأنظمة العربية، وتحفظ من الدول الكبرى.
لقد فرضت مرحلة ما قبل "التمكين" على الإخوان أن يفكروا فقط في الحفاظ على التنظيم، وتأمين قياداته، وبناء أجهزة خاصة لتحقيق الحلم بالقوة في اللحظة الصفر.
ولذلك يعترف الكثير من الإخوان أنهم لم يجدوا الوقت للتفكير الاستراتيجي، ولا لبناء خطاب ثقافي يتأسس على العقل والنقد، ولم يكلفوا أنفسهم التأسيس لمقاربة اقتصادية مرتبطة بالعصر وتعقيداته، واكتفوا في كل هذا بترديد الآيات والأحاديث وبعض كلام الفقهاء في قضايا قديمة.
وحين جاءت الثورات المباغتة في تونس ومصر دفعت بالإخوان إلى الواجهة، فلم يجدوا الوقت للتفكير في أي شيء، خاصة ان بناء منظومة فكرية في مجالات استراتيجية، كالثقافة والاقتصاد، تحتاج إلى تراكم في التجارب والأصوات.
وهنا كانت الورطة التي اختارها الإخوان لأنفسهم بالارتماء على السلطة والإمساك بها كليا مستفيدين من تعاطف الناس مع محنتهم الطويلة، ومن كونهم يتبنون شعار "الإسلام هو الحل".
والمفارق هنا، أنهم لم يتركوا للناس الوقت كي يختبروا قدرة هذا الشعار على الصمود، وبادروا بأنفسهم إلى نقضه تحت شعار "الضرورات تبيح المحظورات"، فأفتوا بجواز الربا والاقتراض من المؤسسات المالية الدولية التي طالما قالوا إنها قبضة أميركية للهيمنة على العالم.
قد يتفهم البعض تحليلهم للربا من باب البراغماتية التي يحتاجها "الثوريون" ظرفيا لتثبيت أنفسهم، لكن لا أحد يتفهم كيف يمكن لتيار الإخوان أن يتحول بين ليلة وضحاها إلى متصالح مع آليات الهيمنة الأميركية على العالم.
ألم يكن من الممكن الاقتراض من بنوك عربية وإسلامية "وإنْ كانت ربوية"، أو من بنوك صينية أو يابانية أو أوروبية، ولماذا بالذات البنك الدولي وصندوق النقد؟
لقد راهن الإخوان، بمختلف تشكيلاتهم التنظيمية القطرية والدولية، على ترضية أميركا ومهادنتها للوصول إلى السلطة لأنها قطعت الطريق على نوايا انقلابات كانوا يعتزمون تنفيذها في أكثر من بلد، وقابلت الإدارة الأميركية هذه المهادنة بمهادنة مثلها.
لكن نتيجة المهادنة هي ما يحدد درجة الربح والخسارة في الجانبين.
وفيما وصل الإخوان إلى السلطة بفضل هذه المهادنة أو المخاتلة، فإنهم وجدوا أنفسهم أمام فوهة بركان في بلدان مخربة ومفقرة ومرتهنة كليا للخارج، وليس مستبعدا أن يخرجوا سريعا من الحكم لأنهم لم يقدروا على حل مشكلات الناس وتوفير حاجاتهم إلى العمل والخبز والدواء.
لكن المهادنة الأميركية أفضت إلى نتائج مهمة استراتيجيا؛ فقد استدرجت الإخوان إلى السلطة، عبر انقلابات بيضاء في مصر وتونس "غيّرت وجه الثورة وجيرتها لصالح أميركا".
كانت إدارة أوباما تعرف أن أي انتخابات ديمقراطية سيفوز بها الإسلاميون، وتعرف، أيضا، أن الإسلاميين لا يمتلكون برامج وخططا لإدارة مرحلة ما بعد التركة الخربة التي تركها مبارك وبن علي، وأنهم سيكونون مضطرين للهاث وراءها كي تدعمهم.
وتكون بذلك قد حققت هدفا بالغ الأهمية، وهو أنها أثبتت للعالم أن الخط الإخواني ليس بديلا عن الهيمنة الأميركية، وإنما جزء من الهيمنة ذاتها حتى وإنْ بدا نقيضا لها في خلفياته وأدبياته.
وهي حقيقة بدأت تتضح خلال الأشهر الأخيرة التي تسلم فيها إخوان تونس ومصر السلطة سواء ما تعلق بالحفاظ على عملية السلام، أو التوافق في الموقف من مقاومة الإرهاب، أو في الملف السوري.
هذا التماهي الإخواني، غير المبرر ولو تكتيكيا مع الخيار الأمريكي يهدد بأن يفقدهم القاعدة الانتخابية التي صعدوا بها إلى السلطة.
وهناك تحليلات تستند إلى معطيات من داخل البيت الأبيض، تقول إن واشنطن تريد أن تروض الإسلام الإخواني وتدعمه عبر المؤسسات المالية التابعة، لينهض بمهمة محاربة السلفية المتشددة وتعبيرتها الجهادية تنظيم "القاعدة" بعد أن استنفدت كل السبل للقضاء عليها.
وبذلك تكون إدارة أوباما قد نجحت في تغيير أنظمة تقليدية مترهلة وفاقدة للشرعية بأنظمة جديدة تحوز على الشرعية وتقدر على أداء دورها بحماس ديني بالغ.
ومن المهم التأكيد أن الاستدراج الأمريكي للتيار الإخواني لم يكن مجرد صدفة، وإنما ناتج عن قراءة أمريكية لطبيعة هذا الحركات التي يصرح زعماؤها لدى زيارتهم إلى الغرب بتبنيهم لخيار السلام مع إسرائيل ومحاربة الإرهاب "السلفية"، وحين يعودون إلى بلدانهم يتحولون إلى غلاة الثوريين.
وليس تجنيا القول إن الإخوان هم من استدرجوا أنفسهم للشرك الأمريكي حين ارتموا على السلطة ليحكموا الناس بالنوايا الحسنة، مع أن النصائح التي وجهت لهم من الأصدقاء والأعداء تقول لهم اتركوا السلطة الآن واهتموا ببناء أنفسكم وتدريب قواعدكم على المدنية والحوار والارتباط بالواقع.
كان يمكن أن يكون الإخوان جزءا من سلطة وطنية توافقية حقيقية تهدف إلى إنقاذ اقتصاديات البلدان التي طالتها الثورات، وتكون مهمتها بناء الثقة مع الأطراف المحلية والدولية، وليس تخويفها بالشعارات ومحاولة التدخل في شؤون الآخرين وفرض "ثورات" عليهم.
كان يمكن، أيضا، أن يختار الإخوان بشجاعة أن يكونوا قوة معارضة تعدّل مسار الثورة ويثبتوا لخصومهم وللمتخوفين منهم أن غايتهم الإصلاح وليس السلطة.
والإصلاح مهمة طويلة النفس تعود ثمرتها على الأجيال القادمة، أما السلطة فتعني تغليب البراغماتية على المبدأ، والتخلي عن حلم "مشروع النهضة" بما يعنيه من خلق شروط فك الارتباط عن قوى الهيمنة فعلا لا قولا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق