خطورة ازدواجية المعايير الأميركية إزاء التطرف الإسلامي
ينبغي أن يفضي مقتل السفير الأميركي كريستفر ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين آخرين في ليبيا مؤخراً، إلى جلب الانتباه الذي تمس الحاجة إليه كثيراً إلى التناقض المتعذر الدفاع عنه بازدياد في السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط. وحتى بينما هي تسعى للتعافي من هذا الهجوم الأخير الذي شنه متطرفون إسلاميون، تستمر الولايات المتحدة في التسامح مع تجييش أتباع نفس تلك الأيديولوجية في مكان آخر في المنطقة ودعمهم، في سورية والبحرين أوضح ما يكون. وهناك، يجب على الولايات المتحدة أن تتوقع نتائج مخيفة بالمقدار نفسه.
وكان الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، قد نفذ بأيدي من يشتبه بأنهم أعضاء في مجموعة "أنصار الشريعة" الملتزمة بنفس التفسير السلفي (أو الوهابي) الديني الساري أكثر ما يكون في العربية السعودية. وبينما لا يمكن صبغ الاحتجاجات التي تستمر في الانتشار في عموم المنطقة بضربة فرشاة واحدة، والتي لها جذور في المعاناة السياسية المحلية بلا شك، ما يزال ثمة ملمح تشترك فيه جميعاً، هو التواجد الواضح -والقوة التنظيمية- للإسلاميين السنة فيها.
وعندما نجح المتظاهرون في القاهرة وصنعاء في التمكن من الدخول إلى السفارتين الأميركيتين في العاصمتين المذكورتين، فقد استبدلوا في كل حالة العلم الأميركي براية سوداء مخطوط عليها بالأبيض عبارة الشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله". وبحلول هذا الوقت، يجب أن تكون الرايات التي استخفت بها الناطقة بلسان وزارة الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند على نحو ماكر، واصفة إياها بأنها مجرد "علم أسود بسيط"، يجب أن تكون مألوفة كفاية لدى مسؤولي الإدارة. إنها نفس الرايات التي رفعها متطرفون سلفيون آخرون، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى القاعدة وتنظيماتها الإقليمية التابعة، امتداداً من مالي ووصولاً إلى اليمن. وليس من قبيل المصادفة ظهور هذه الرايات في كل واحدة من الاحتجاجات الجماهيرية التي شوهدت حتى الآن -في بنغازي وفي تونس وفي الخرطوم، وحتى في الدوحة.
أن تفشل إدارة أوباما في الإقرار برمزية الراية السوداء، فإن في ذلك دليلاً على حقيقة غير مريحة، ولكنها ثابتة، فيما يتعلق بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وحتى فيما هي تترنح جراء أول وفاة لسفير لها على رأس عمله طوال أكثر من عقدين، فإن الولايات المتحدة مستمرة في تزويد الدعم اللوجستي وغيره من دعم أدوات "القيادة والتحكم" للثوار في سورية، بينما تضخ الحليفتان الخليجيتان، العربية السعودية وقطر، الأموال والأسلحة. وهي تبدو منطوية على القليل من الاهتمام أو الاهتمام غير الكافي لطبيعة تمكين أولئك المحاربين، أو القوى الأيديولوجية الأعرض الكامنة وراء كفاحهم.
وبينما يبقى الجيش السوري الحر بعيداً بشكل مشهود عن التجانس، فثمة أطراف بارزة بين فصائله هي المجموعات السلفية المسلحة، مثل جماعة أنصار الشريعة في ليبيا. وفي الحقيقة، أوردت الصحف المحلية في اليمن أن أعضاء في تنظيم متشدد في البلد يحملون الاسم نفسه قد غادروا اليمن للانضمام إلى القتال في سورية. وفي أوائل آب سافر أربعة أعضاء، بمن فيهم نائب رئيس الكتلة السلفية في برلمان البحرين لتناول الطعام مع نظرائهم في الجيش السوري الحر، متباهين على شبكة التواصل الاجتماعي تويتر بدعمهم -الأيديولوجي والحاسم- لجماعة "صقور الشام" في قتالها ضد "الصفويين المكروهين" أي الشيعة العلويين. وعند عودتهم إلى البحرين، تبنى البرلمانيون قضية جديدة متسيدين الحملة ضد كنيسة كاثوليكية جديدة من المزمع بناؤها، وأصر أحد المشرعين من حركة الإصلاح على أنه "لا يمكن تشييدها في شبه الجزيرة العربية.. التي هي ملك للمسلمين".
ومن دون الإخلال برغبة هذه المجموعات في التنسيق مع الولايات المتحدة مؤقتاً في سورية، يجب على المرء أن لا يحتفظ بأي أوهام حول مؤهلاتها السياسية والدينية، وماذا تعني بالنسبة للمصالح الأميركية في أماكن حيث لا تجدي هذه التحالفات المزدوجة، ولن تجدي نفعاً. وكما يشاهد في اللغة الطائفية المقتبسة أعلاه، فإن ثمة ملمحاً عاماً للتيار السلفي يكمن في افتقار جلي للتسامح الديني، وخاصة فيما يتعلق بالمسلمين الشيعة الذين ينظر إليهم، وفي ضوء ولائهم المزعوم لإيران، بأنهم هراطقة سياسيون على حد سواء. وفيما يشير إلى أكثر من مجرد مبدأ في حد ذاته، يعكس هذا المفهوم التأويل الخادم للذات للراعي الفكري والنقدي للنزعة السلفية في الجزيرة العربية، العالقة في منافستها على الهيمنة الإقليمية مع الجمهورية الإسلامية. وبمساعدة الإعلام الذي ترعاه الدول الخليجية، ظهرت المعاهد الدينية والتدريب لجيل جديد من رجال الدين وتغذية المشاعر المعادية للشيعة، والتي اتسمت بنبرة منذرة في عموم العالم الإسلامي، بدءاً من شبه الجزيرة العربية والساحل إلى أماكن أقل ترجيحاً مثل كشمير وباكستان وإندونيسيا.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الأجندة الطائفية والسياسية قد أثبتت كونها مفيدة في تجييش المواطنين السنة -وليس ضد مواطنيهم الشيعة وحسب، وإنما أيضاً ضد أي حكومة أو شخص يعد متواطئاً في السعي الاستعراضي للهيمنة المجتمعية. وليس أوضح على ذلك مما يجري عند المملكة الصغيرة ذات الأغلبية الشيعية، البحرين. وللتصدي للقوة التي أظهرتها انتفاضتها الشعبية التي كانت قد بدأت في شباط من العام 2011 من جانب معارضين شيعة وعلمانيين، استغلت حكومة البحرين -بل وغذت- مخاوف وشكوك المواطنين الآخرين، وخاصة أولئك المنضوين في قاعدة دعمها السنية التقليدية. وخائفين مما صورته الدولة بنجاح على أنه مؤامرة مدعومة إيرانياً لتنصيب ثيوقراطية شيعية في البحرين، انتظم العديد من السنة -ليس فقط في معارضة الناشطين الشيعة الذين صوروا طابوراً خامساً، وإنما في معارضة أي شخص يتجاسر على اقتراح تسوية سياسية معهم ومع مطالبهم طويلة الأمد، الداعية لإجراء إصلاح دستوري.
وبشكل منسق من جانب أعضاء مؤدلجين أمنياً من العائلة الحاكمة في البحرين، وبدعم قادة ينطوون على التفكير نفسه في الدول المجاورة، ظهر تجييش السنة البحرينيين كأنجع سلاح للحملة للحيلولة دون تحقيق تسوية سياسية متفاوض عليها لأزمة البلد التي دخلت شهرها الثامن عشر. وكان عنصر ثابت في هذا الجهد شيطنة "التدخل" الغربي، وخاصة الأميركي، في الشؤون الداخلية للبحرين على الرغم من التاريخ الطويل من التعاون السياسي والعسكري بين البلدين، واستضافة البحرين للأسطول البحري الأميركي الخامس.
وفي ذروة المظاهرات الجماهيرية في آذار من العام 2011، أشار السلفيون المؤيدون للحكومة إلى ضابط للشؤون السياسية في السفارة الأميركية في المنامة، بسبب روابطه المفترضة مع ناشطي المعارضة وتعاطفه معهم. (وقالوا أيضاً إنه كان يهودياً). ونشرت صورته وعنوانه وتفاصيل شخصية أخرى عنه، إلى جانب تفاصيل خاصة بعائلته على الموقع الإلكتروني وعبر رسائل نصية جماهيرية. وبعد عدة أيام، وفي ظل أمن دبلوماسي مشدد، تمت إعادة الضابط بهدوء إلى الوطن في واشنطن في دورة خدمة "روتينية".
وطوال الربيع ووقت مبكر من الصيف، كان الدبلوماسيون الأميركيون يضغطون من أجل استئناف مفاوضات رئيسية بين الحكومة والمعارضة، مع استمرار المحافظين في العائلة الحاكمة في حملتهم ضد مؤامرة أميركية مزعومة في البحرين. وتوج النقد القاسي واللاذع في سلسلة طويلة من المقالات التي نشرت بعنوان "آية الله أوباما والبحرين" على مدار أسبوعين في صحيفة متشددة ترعاها الحكومة. وقد صور الكاتب، الذي عين منذئذٍ رئيساً للتحرير في الصحيفة، رئيساً أميركياً يعمل ضد البحرين -ليس انطلاقاً من مصالح بلده الاستراتيجية، وإنما بدافع التعاطف مع الشيعة. ولم تتوقف المقالات إلا بعد شكوى رسمية قدمتها السفارة الأميركية.
ولاحقاً في تموز اتهم وزير الدفاع البحريني الولايات المتحدة، في مقابلة أجرتها معه صحيفة الأهرام المصرية، بما لا يقل عن التآمر، سوية مع إيران، لتنظيم انتفاضة شهر شباط برمتها. وكرر هذه الادعاءات في شباط قائلاً لصحيفة بحرينية إن "محاولة الانقلاب" لقيت دعم 22 منظمة غير حكومية مختلفة،" بإدارة وتمويل الولايات المتحدة ودولة خليجية لم يذكرها. وبعد وقت ليس طويلاً، أوردت وكالة أنباء البحرين أن اجتماعاً قد عقد بين وزير الدفاع والسفير الأميركي ثوماس كراجيسكي، ربما لبحث تفسير الوزير المثير للاهتمام للتطورات.
ومع ذلك تكثفت الحملة المعادية للغرب ولأميركا بدلاً من أن تهدأ. وقبل شهرين وحسب، ثار مشرعون سلفيون ومن الإخوان المسلمين من أجل استبدال كراجيسكي، سوية مع الإعلان عن كون مساعد وزيرة الخارجية الأميركية مايكل بوسنر، الذي كان يرسل بين الفينة والأخرى إلى البحرين في أعقاب الانتفاضة، هو شخصية غير مرغوب فيها. ووفق أحد أعضاء البرلمان السلفيين الذي كان من بين أولئك الذين سيسافرون إلى سورية لاحقاً، فإن كراجيسكي "يطالب بتمكين (المعارضة) تحت عباءة الديمقراطية وحقوق الإنسان... وقد ظل السفير منذ تعيينه، ناشطاً على نحو خاص في ممارسة الضغط على البحرين وفي تهديد البلد وابتزازه. ولا تتوقف اجتماعاته مع المعارضة. لقد وصل التدخل الأميركي في شؤوننا إلى مستويات غير مسبوقة.
وعلى الرغم من ذلك، تظل الولايات المتحدة كما يبدو غير راغبة في إظهار الغضب في وجه المنامة ولا الرياض عبر المطالبة بوضع حد لهذا التجييش الذي ترعاه الدولة للسنة العاديين. وفي غياب ضغط فعال لفعل عكس ذلك، عمدت الدول الخليجية المعنية إلى تخفيف استراتيجيتها السياسية الطائفية المشتركة، معولة على خوف شبه هستيري من حدوث تمكين شيعي يلقى المساعدة الخارجية للحيلولة دون ظهور مواقف أكبر ومتقاطعة وفي نهاية المطاف، والتي تكون أكثر خطورة بكثير، تنتظم حول المعاناة التي تشترك فيها كل شرائح المجتمع: مشاكل مثل الفساد، والتنمية غير المتساوية، والافتقار إلى المحاسبة السياسية. وتكون النتيجة مناخاً اجتماعياً وسياسياً لا يعكس استقطاباً غير مسبوق وحسب، لكنه يمثل تهديداً خطيراً للمصالح الأميركية في المنطقة -سياسياً ومادياً على حد سواء.
لقد جلبت الهجمات الإرهابية في 11 أيلول إلى الواجهة تساؤلات غير مريحة عن مصادر التطرف الإسلامي العنيف، وعن دعم الولايات المتحدة غير المتعمد له من خلال الرعاية المستمرة لأولئك الذين نثروا بذور هذا الاتجاه الفكري. ويأمل المرء بإعادة النظر راهناً في هذه التساؤلات غير المريحة، وبتركيز أكبر، خاصة عندما يحدث في الذكرى الحادية عشرة لأحداث 11/9 عنف سياسي من جانب أشخاص مرتبطين بنفس تلك الأيديولوجية.
*ناقش مؤخراً رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة متشيغان. وهو يعمل الآن في معهد بحوث الدراسات المجتمعية والاقتصادية في الدوحة.
جستين غينغلر - (جريدة القدس)
ينبغي أن يفضي مقتل السفير الأميركي كريستفر ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين آخرين في ليبيا مؤخراً، إلى جلب الانتباه الذي تمس الحاجة إليه كثيراً إلى التناقض المتعذر الدفاع عنه بازدياد في السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط. وحتى بينما هي تسعى للتعافي من هذا الهجوم الأخير الذي شنه متطرفون إسلاميون، تستمر الولايات المتحدة في التسامح مع تجييش أتباع نفس تلك الأيديولوجية في مكان آخر في المنطقة ودعمهم، في سورية والبحرين أوضح ما يكون. وهناك، يجب على الولايات المتحدة أن تتوقع نتائج مخيفة بالمقدار نفسه.
وكان الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، قد نفذ بأيدي من يشتبه بأنهم أعضاء في مجموعة "أنصار الشريعة" الملتزمة بنفس التفسير السلفي (أو الوهابي) الديني الساري أكثر ما يكون في العربية السعودية. وبينما لا يمكن صبغ الاحتجاجات التي تستمر في الانتشار في عموم المنطقة بضربة فرشاة واحدة، والتي لها جذور في المعاناة السياسية المحلية بلا شك، ما يزال ثمة ملمح تشترك فيه جميعاً، هو التواجد الواضح -والقوة التنظيمية- للإسلاميين السنة فيها.
وعندما نجح المتظاهرون في القاهرة وصنعاء في التمكن من الدخول إلى السفارتين الأميركيتين في العاصمتين المذكورتين، فقد استبدلوا في كل حالة العلم الأميركي براية سوداء مخطوط عليها بالأبيض عبارة الشهادتين: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله". وبحلول هذا الوقت، يجب أن تكون الرايات التي استخفت بها الناطقة بلسان وزارة الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند على نحو ماكر، واصفة إياها بأنها مجرد "علم أسود بسيط"، يجب أن تكون مألوفة كفاية لدى مسؤولي الإدارة. إنها نفس الرايات التي رفعها متطرفون سلفيون آخرون، بمن فيهم أولئك الذين ينتمون إلى القاعدة وتنظيماتها الإقليمية التابعة، امتداداً من مالي ووصولاً إلى اليمن. وليس من قبيل المصادفة ظهور هذه الرايات في كل واحدة من الاحتجاجات الجماهيرية التي شوهدت حتى الآن -في بنغازي وفي تونس وفي الخرطوم، وحتى في الدوحة.
أن تفشل إدارة أوباما في الإقرار برمزية الراية السوداء، فإن في ذلك دليلاً على حقيقة غير مريحة، ولكنها ثابتة، فيما يتعلق بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وحتى فيما هي تترنح جراء أول وفاة لسفير لها على رأس عمله طوال أكثر من عقدين، فإن الولايات المتحدة مستمرة في تزويد الدعم اللوجستي وغيره من دعم أدوات "القيادة والتحكم" للثوار في سورية، بينما تضخ الحليفتان الخليجيتان، العربية السعودية وقطر، الأموال والأسلحة. وهي تبدو منطوية على القليل من الاهتمام أو الاهتمام غير الكافي لطبيعة تمكين أولئك المحاربين، أو القوى الأيديولوجية الأعرض الكامنة وراء كفاحهم.
وبينما يبقى الجيش السوري الحر بعيداً بشكل مشهود عن التجانس، فثمة أطراف بارزة بين فصائله هي المجموعات السلفية المسلحة، مثل جماعة أنصار الشريعة في ليبيا. وفي الحقيقة، أوردت الصحف المحلية في اليمن أن أعضاء في تنظيم متشدد في البلد يحملون الاسم نفسه قد غادروا اليمن للانضمام إلى القتال في سورية. وفي أوائل آب سافر أربعة أعضاء، بمن فيهم نائب رئيس الكتلة السلفية في برلمان البحرين لتناول الطعام مع نظرائهم في الجيش السوري الحر، متباهين على شبكة التواصل الاجتماعي تويتر بدعمهم -الأيديولوجي والحاسم- لجماعة "صقور الشام" في قتالها ضد "الصفويين المكروهين" أي الشيعة العلويين. وعند عودتهم إلى البحرين، تبنى البرلمانيون قضية جديدة متسيدين الحملة ضد كنيسة كاثوليكية جديدة من المزمع بناؤها، وأصر أحد المشرعين من حركة الإصلاح على أنه "لا يمكن تشييدها في شبه الجزيرة العربية.. التي هي ملك للمسلمين".
ومن دون الإخلال برغبة هذه المجموعات في التنسيق مع الولايات المتحدة مؤقتاً في سورية، يجب على المرء أن لا يحتفظ بأي أوهام حول مؤهلاتها السياسية والدينية، وماذا تعني بالنسبة للمصالح الأميركية في أماكن حيث لا تجدي هذه التحالفات المزدوجة، ولن تجدي نفعاً. وكما يشاهد في اللغة الطائفية المقتبسة أعلاه، فإن ثمة ملمحاً عاماً للتيار السلفي يكمن في افتقار جلي للتسامح الديني، وخاصة فيما يتعلق بالمسلمين الشيعة الذين ينظر إليهم، وفي ضوء ولائهم المزعوم لإيران، بأنهم هراطقة سياسيون على حد سواء. وفيما يشير إلى أكثر من مجرد مبدأ في حد ذاته، يعكس هذا المفهوم التأويل الخادم للذات للراعي الفكري والنقدي للنزعة السلفية في الجزيرة العربية، العالقة في منافستها على الهيمنة الإقليمية مع الجمهورية الإسلامية. وبمساعدة الإعلام الذي ترعاه الدول الخليجية، ظهرت المعاهد الدينية والتدريب لجيل جديد من رجال الدين وتغذية المشاعر المعادية للشيعة، والتي اتسمت بنبرة منذرة في عموم العالم الإسلامي، بدءاً من شبه الجزيرة العربية والساحل إلى أماكن أقل ترجيحاً مثل كشمير وباكستان وإندونيسيا.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه الأجندة الطائفية والسياسية قد أثبتت كونها مفيدة في تجييش المواطنين السنة -وليس ضد مواطنيهم الشيعة وحسب، وإنما أيضاً ضد أي حكومة أو شخص يعد متواطئاً في السعي الاستعراضي للهيمنة المجتمعية. وليس أوضح على ذلك مما يجري عند المملكة الصغيرة ذات الأغلبية الشيعية، البحرين. وللتصدي للقوة التي أظهرتها انتفاضتها الشعبية التي كانت قد بدأت في شباط من العام 2011 من جانب معارضين شيعة وعلمانيين، استغلت حكومة البحرين -بل وغذت- مخاوف وشكوك المواطنين الآخرين، وخاصة أولئك المنضوين في قاعدة دعمها السنية التقليدية. وخائفين مما صورته الدولة بنجاح على أنه مؤامرة مدعومة إيرانياً لتنصيب ثيوقراطية شيعية في البحرين، انتظم العديد من السنة -ليس فقط في معارضة الناشطين الشيعة الذين صوروا طابوراً خامساً، وإنما في معارضة أي شخص يتجاسر على اقتراح تسوية سياسية معهم ومع مطالبهم طويلة الأمد، الداعية لإجراء إصلاح دستوري.
وبشكل منسق من جانب أعضاء مؤدلجين أمنياً من العائلة الحاكمة في البحرين، وبدعم قادة ينطوون على التفكير نفسه في الدول المجاورة، ظهر تجييش السنة البحرينيين كأنجع سلاح للحملة للحيلولة دون تحقيق تسوية سياسية متفاوض عليها لأزمة البلد التي دخلت شهرها الثامن عشر. وكان عنصر ثابت في هذا الجهد شيطنة "التدخل" الغربي، وخاصة الأميركي، في الشؤون الداخلية للبحرين على الرغم من التاريخ الطويل من التعاون السياسي والعسكري بين البلدين، واستضافة البحرين للأسطول البحري الأميركي الخامس.
وفي ذروة المظاهرات الجماهيرية في آذار من العام 2011، أشار السلفيون المؤيدون للحكومة إلى ضابط للشؤون السياسية في السفارة الأميركية في المنامة، بسبب روابطه المفترضة مع ناشطي المعارضة وتعاطفه معهم. (وقالوا أيضاً إنه كان يهودياً). ونشرت صورته وعنوانه وتفاصيل شخصية أخرى عنه، إلى جانب تفاصيل خاصة بعائلته على الموقع الإلكتروني وعبر رسائل نصية جماهيرية. وبعد عدة أيام، وفي ظل أمن دبلوماسي مشدد، تمت إعادة الضابط بهدوء إلى الوطن في واشنطن في دورة خدمة "روتينية".
وطوال الربيع ووقت مبكر من الصيف، كان الدبلوماسيون الأميركيون يضغطون من أجل استئناف مفاوضات رئيسية بين الحكومة والمعارضة، مع استمرار المحافظين في العائلة الحاكمة في حملتهم ضد مؤامرة أميركية مزعومة في البحرين. وتوج النقد القاسي واللاذع في سلسلة طويلة من المقالات التي نشرت بعنوان "آية الله أوباما والبحرين" على مدار أسبوعين في صحيفة متشددة ترعاها الحكومة. وقد صور الكاتب، الذي عين منذئذٍ رئيساً للتحرير في الصحيفة، رئيساً أميركياً يعمل ضد البحرين -ليس انطلاقاً من مصالح بلده الاستراتيجية، وإنما بدافع التعاطف مع الشيعة. ولم تتوقف المقالات إلا بعد شكوى رسمية قدمتها السفارة الأميركية.
ولاحقاً في تموز اتهم وزير الدفاع البحريني الولايات المتحدة، في مقابلة أجرتها معه صحيفة الأهرام المصرية، بما لا يقل عن التآمر، سوية مع إيران، لتنظيم انتفاضة شهر شباط برمتها. وكرر هذه الادعاءات في شباط قائلاً لصحيفة بحرينية إن "محاولة الانقلاب" لقيت دعم 22 منظمة غير حكومية مختلفة،" بإدارة وتمويل الولايات المتحدة ودولة خليجية لم يذكرها. وبعد وقت ليس طويلاً، أوردت وكالة أنباء البحرين أن اجتماعاً قد عقد بين وزير الدفاع والسفير الأميركي ثوماس كراجيسكي، ربما لبحث تفسير الوزير المثير للاهتمام للتطورات.
ومع ذلك تكثفت الحملة المعادية للغرب ولأميركا بدلاً من أن تهدأ. وقبل شهرين وحسب، ثار مشرعون سلفيون ومن الإخوان المسلمين من أجل استبدال كراجيسكي، سوية مع الإعلان عن كون مساعد وزيرة الخارجية الأميركية مايكل بوسنر، الذي كان يرسل بين الفينة والأخرى إلى البحرين في أعقاب الانتفاضة، هو شخصية غير مرغوب فيها. ووفق أحد أعضاء البرلمان السلفيين الذي كان من بين أولئك الذين سيسافرون إلى سورية لاحقاً، فإن كراجيسكي "يطالب بتمكين (المعارضة) تحت عباءة الديمقراطية وحقوق الإنسان... وقد ظل السفير منذ تعيينه، ناشطاً على نحو خاص في ممارسة الضغط على البحرين وفي تهديد البلد وابتزازه. ولا تتوقف اجتماعاته مع المعارضة. لقد وصل التدخل الأميركي في شؤوننا إلى مستويات غير مسبوقة.
وعلى الرغم من ذلك، تظل الولايات المتحدة كما يبدو غير راغبة في إظهار الغضب في وجه المنامة ولا الرياض عبر المطالبة بوضع حد لهذا التجييش الذي ترعاه الدولة للسنة العاديين. وفي غياب ضغط فعال لفعل عكس ذلك، عمدت الدول الخليجية المعنية إلى تخفيف استراتيجيتها السياسية الطائفية المشتركة، معولة على خوف شبه هستيري من حدوث تمكين شيعي يلقى المساعدة الخارجية للحيلولة دون ظهور مواقف أكبر ومتقاطعة وفي نهاية المطاف، والتي تكون أكثر خطورة بكثير، تنتظم حول المعاناة التي تشترك فيها كل شرائح المجتمع: مشاكل مثل الفساد، والتنمية غير المتساوية، والافتقار إلى المحاسبة السياسية. وتكون النتيجة مناخاً اجتماعياً وسياسياً لا يعكس استقطاباً غير مسبوق وحسب، لكنه يمثل تهديداً خطيراً للمصالح الأميركية في المنطقة -سياسياً ومادياً على حد سواء.
لقد جلبت الهجمات الإرهابية في 11 أيلول إلى الواجهة تساؤلات غير مريحة عن مصادر التطرف الإسلامي العنيف، وعن دعم الولايات المتحدة غير المتعمد له من خلال الرعاية المستمرة لأولئك الذين نثروا بذور هذا الاتجاه الفكري. ويأمل المرء بإعادة النظر راهناً في هذه التساؤلات غير المريحة، وبتركيز أكبر، خاصة عندما يحدث في الذكرى الحادية عشرة لأحداث 11/9 عنف سياسي من جانب أشخاص مرتبطين بنفس تلك الأيديولوجية.
*ناقش مؤخراً رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة متشيغان. وهو يعمل الآن في معهد بحوث الدراسات المجتمعية والاقتصادية في الدوحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق