الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012


ما لم تفهمه جماعة الإخوان المسلمين في مصر ومفهوم 'التناحة'!
د. يحيى مصطفى كامل
2012-10-08




ليست بالمرة الأولى التي أصف فيها ما يحدث في مصر من تطوراتٍ بالغرائبية أو 'الفانتازيا'، ولا يرجع ذلك إلى عداءٍ مستحكم مع جماعة الإخوان المسلمين أو كراهيةٍ متأصلة، وإنما لأن مجمل تحركاتهم حتى الآن من زياراتٍ خارجية عالية الوتيرة بغرض تقديم فروض الولاء والطاعة أو التسول من قبل الرئيس، إلى ما يصدر من تصريحاتٍ مدهشة ومضحكة في أغلب الأحيان، إلى مشروع النهضة الذي تبخر وحاولوا الإيحاء لنا بأننا تصورناه أو أنه 'شُبه لنا' في حين أن مشروعاً كذلك لم يوجد أبداً، إلى قرض صندوق النقد الدولي أرباً هو أم لا، إلى نوعية الجدل الدائر على الساحة والذي لا يندر أن يتدنى إلى مستوىً منحط من التلاسن والسباب بينهم وبين الأطراف الأخرى...هذه وأمثلةٌ عديدةٌ أخرى تنم عن تخبطٍ شديد لا يثير سوى الضحك الممزوج بالغيظ ويضعنا أمام واقعٍ يذكرنا بروايات الواقعية السحرية لكتاب أمريكا اللاتينية، أو (وهو الأقرب لنا) بما يطالعنا من أحداثٍ في كتب كبار المؤرخين من أمثال ابن إياس الحنفي والمقريزي تثير العجب والقرف والرعب.
كما أن الحديث عن إعادة إنتاجهم لسياسات مبارك بات مكروراً...إلا أن التمحيص يكشف عن عدم دقة هذه المقولة (أو الأطروحة إذا شئت التحذلق) فصعود جماعة الإخوان المسلمين إلى أعلى مكان، إلى سدة الرئاسة، لم يتم عن طريق توريثها سلمياً بسلاسة من قبل مبارك وأوباشه وإنما أعقب حراكاً شعبياً ضخماً وهادراً ومهيباً أجبر مباركاً على الرحيل وسجنه ومن ثم قدمه ذليلاً كسيفاً للمحاكمة، كما أن ذلك الصعود جاء أيضاً نتيجة انتخاباتٍ رسمية بعد مرحلةٍ انتقاليةٍ فاشلةٍ حفلت بالانتفاضات التي تم قمعها بوحشية من قبل النظام مصطفاً وراء المجلس العسكري؛ بالتالي فإن إعادة إنتاج سياسات مبارك من قبل الجماعة لا يدل على انحيازاتٍ واختياراتٍ طبقية واقتصادية-اجتماعية فحسب، وإنما ينم عما هو أدهى وأخطر من ذلك بمراحل، ألا وهو أن الجماعة غابت عنها متغيراتٌ عديدة ولم تفهم مغزى الحدث الثورى وتبعاته.
بدايةً لم تفهم قيادات الجماعة خطورة يوم 25 يناير، بل واستغرقهم الأمر أربعة أيام ليصلوا إلى إدراك جدية التطورات وأن الأمور لن تعود إلى الوراء ولتترسخ لديهم قناعة بحتمية المشاركة لئلا يفوتهم نصيب من الكعكة المستقبلية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي خضم فوران الفترة الانتقالية راهنوا على العسكر وتحالفوا معهم متصورين أن ذلك التحالف مانعهم من التيارات الشعبية الصاعدة التي أفرزها 25 يناير والتي تبحث لها عن أرضيةٍ في الشارع، مما يدل على أنهم لم يدركوا أن أركان الدولة العميقة من عسكرٍ ومنظومةٍ استخبارية مهزوزون متضعضعون بصورةٍ ربما لم نعهدها عليهم أو يعرفوها من قبل وأن زمن الشعوب قد عاد برجوع الجماهير إلى الشارع طرفاً رئيسياً حاسماً في العملية السياسية... بمعنى آخر، لم يدركوا أن أطراف المعادلة ومفرداتها قد تغيرت وأن واقعاً جديداً ذا صيغٍ وتوازنات جديدة آخذٌ في التشكل وإن لم يظهر للوجود في شكله النهائي بعد... أما انتهاجهم نفس سياسات مبارك الاقتصادية مع إحلالهم كوادر إخوانية من عينة الأخين حسن مالك وخيرت الشاطر محل رموز العهد السابق كأحمد عز فيشير إلى عجزٍ تام عن إدراك أسباب الثورة الاجتماعية-الاقتصادية، فالمصريون لم ينزلوا إلى الميادين والشوارع ولم يتحلقوا حول الشباب المعتصم لنزوةٍ تسلطت عليهم أو بدافعٍ من الملل وإنما لأن المجتمع يعيش أزمةً عميقةً ويشهد صراعاً طاحناً بين طبقاته، بين من يملكون ومن لا يملكون نتيجة النهب والسياسات الاقتصادية المجحفة والمنحازة لقلةٍ من الأغنياء المستفيدين من علاقاتهم بالقصر وأسرة مبارك الذهبية ولتحلل الدولة من كل التزاماتها إزاء المعوزين من مواطنيها الذين يشكلون أغلبية الشعب والطبقة الوسطى المــــتآكلة التي ما فتئــــت تنزلق إلى مستنقع الفقر، الأمر الذي كان مثار التندر والنــــكات، وقد وجدت هذه الأزمة أفضل تعبيرٍ عنها في ما عرف حينذاك بقضية التوريث التي لخصت فشملت أبعاد المشكلة ...كل ذلك عجز الإخوان عن فهمه ويتعاملون مع ثورة الشعب المصري كما لو كانت تغيراً مزاجياً يود إضفاء صبغة إسلامية وشرعية على المجتمع وستر قبح التفاوتات الطبقية والفقر المؤلم بغلالة من الرطانة الشرعية؛ لم يفهموا أن الهيمنة السعودية وارتهان مصر لمصلحة الخليج بنفطه وإسرائيل وأمريكا هي السبب الرئيسي فيما حل بمصر من انتكاس وها هم يسلكون نفس نهج التسول والاستجداء عوضاً عن محاولة إعادة رسم خريطة الاقتصاد المصري بالتركيز على الإنتاج، ولا أعلم من الذي أشار عليهم بأن التواصل مع الجمهور يعني أن يقضي الرئيس وقته متجولاً بين المساجد يخطب في جمهورٍ ضجر دون أن يكون لديه ما يقوله ويقدمه مما من شأنه أن يحدث تغييراً إيجابياً على الأرض حتى صار الأمر برمته مزحةً مكررةً وثقيلة الظل!
و لعل سؤالاً ملحاً يثور هنا: لماذا لا يفهم الإخوان المسلمون؟!
الإجابة الموجزة على ذلك بسيطة: لأن الحدث أكبر منهم...فالإخوان لم يكونوا يوماً تنظيماً ثورياً (باعتراف قياداتهم) على الرغم من كونهم طلاب سلطةٍ بامتياز، وباستثناء الاغتيالات السياسية لا يمتلكون نظريةً متماسكةً للثورة وقد اعتمدوا في تاريخهم على مهادنة السلطة ما أمكنهم ذلك والسعي إلى اكتساب النفوذ من ورائها، وكان أسلوبهم دائماً محاولة التمدد عن طريق نشر خطابهم في المجتمع بهدف الهيمنة الفكرية بحيث يزداد جمهور المتعاطفين معهم ويصبح السواد الأعظم إما منضوياً في التنظيم مؤتمراً بإمرة قياداته أو متعاطفاً معه ويلعب على أرضيته، وبذا يتمكنون من التغلغل في جسد الدولة والانسلال إلى نسيج النظام...لكن الثورة عاجلتهم على غير استعدادٍ منهم أو رغبة فراهنوا على العسكر لأنهم لا يعرفون غير ذلك... فما هم إلا وجهٌ آخر لنفس انحيازات نظام مبارك، وعلى الرغم من امتلاكهم التنظيم المحكم الذي أوصلهم للسلطة لا يصدرون عن رؤيةٍ اقتصاديةٍ-اجتماعيةٍ مغايرة أو بديلة للمجتمع، ولا يملكون أدوات التحليل النقدي ومفرداته، فمن حسن حظهم (وسوء حظ الوطن) أن الفصائل التي تمتلك رؤيةً مغايرة ومنطقاً متماسكاً كانت تعاني الوهن والضمور وسوء التنظيم والتشرذم طوال العقود الثلاثة الماضية لأسبابٍ ليس هنا المجال للخوض فيها.
الملاحظ ( والمسلي أيضاً) أن الإخوان باتوا يدركون أو يشعرون أن هناك مشكلة، ولكنهم ليس لديهم حلول للأسباب التي أسلفنا، ولما كانوا على غير استعدادٍ للاعتراف بالخطأ أو لا سمح الله أن يتركوا السلطة التي انقطعت أنفاسهم وراءها ما يزيد على الثمانية عقود فقد لجأوا إلى سلاح التناحة ...والتناحة في المصطلح المصري الدارج تعني مزيجاً من البلادة والعناد وافتعال العبط مع الاستمرار والتمادي كأن شيئاً لم يكن ولم يحدث من قبل شخصٍ (أو جماعة في حالتنا) يدرك تمام الإدراك وجود خطأ أو مشكلة خطيرة... وقد تفوقوا على مبارك في ذلك لأنه، على بلادته وغبائه، لم يتمادَ في أعقاب ثورةٍ شعبية... بـالتناحة نستطيع أن نصف ونفسر استمرار الرئيس مرسي (والجماعة وراءه) في نفس السياسات التي تسببت في الثورة وتجاهل المطالب الشعبية والإضرابات الفئوية وخطوات الاستحواذ على مرافق الدولة وآليات العنف فيها، كما أنه بـالتناحة نفهم إصرارهم اليائس على فرض رؤيتهم على الجمعية التأسيسية بغرض إنفاذ دستورٍ يكبل الدولة الجديدة في مشروعهم ويلفها في شباك مزاجهم الخاص حتى لو أتت الانتخابات بأشخاصٍ آخرين.
لقد خسرت الجماعة في أقل من عامين من الحرية النسبية ما لم تخسره في تاريخها الحديث منذ سبعيــــنيات القرن الماضي، وتسببت في شيوع حالةٍ عميــــــقةٍ من الإحباط والكفر بالثورة بين قطاعاتٍ عديدة، ومازالت لم تفهم تماماً ومازالت مصرةً على المضي في مشروع التمكين، وفي ظل ذلك يتعين على القوى المدنية المناوئة أن تتحد لكي لا ندفع جميعاً تكاليف باهظة للوقت الضائع من عمر الثورة بسبب 'تناحة' الجماعة.

' كاتب مصري (زميل الكلية الملكية لأطباء التخدير في بريطانيا)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger