الاثنين، 28 فبراير 2011

الثورة المصرية تزلزل الحرب على الإرهاب









من يصدق وصف الرئيس الأميركي لجماعة إسلامية شعارها "سيف ومصحف" بأنها "تنظيم سياسي" وليس إرهابيا، وأنها "الكتلة المعارضة الأكثر تنظيما على الساحة المصرية" وليست جماعة أصولية هي الأكثر تطرفا وراديكالية.

كيف تغيرت لغة الخطاب الأميركي تجاه العدو الأول للولايات المتحدة وهي تشن حربا عليه منذ عقد كامل وتسميها الحرب على الإرهاب، بدءا من بن لادن وانتهاء بكل حركة إسلامية في أجندتها كلمة جهاد وسياسة.

كيف تصنف الإدارة الأميركية "حركة حماس" على الجانب الفلسطيني من الحدود ضمن المنظمات الإرهابية، ثم تعترف بوجود الإخوان المسلمين على الجانب المصري من الحدود كتنظيم سياسي معارض، رغم تقارب الإخوان وحماس أيديولوجيا وفكريا وتبنيهما مواقف مشتركة في شتى القضايا وعلى رأسها الموقف من إسرائيل والمفاوضات والولايات المتحدة؟

الأرجح أن الثورة المصرية تحمل إرهاصات نهاية عقد "الحرب على الإرهاب"، الذي بدأ في سبتمبر/أيلول 2001 وأنهته مبكرا، وقبل سبتمبر/أيلول 2011، الموعد الذي كان مفترضا لتنحي مبارك، لتبدأ حقبة جديدة من السياسة الأميركية تجاه الإسلاميين الحركيين، قائمة على تقبل وجودهم كأمر واقع، وتمييز الوسطيين منهم من المتطرفين، وضرورة احتوائهم طرفا فاعلا في المشهد القادم على المستوى الإقليمي والدولي، بدلا من اختزالهم جميعا في سلة واحدة هي سلة بن لادن.

الإخوان من العتمة إلى القمة

"
تحذيرات مبارك المستمرة للغرب من الإخوان ساهمت بمنحهم بعدا دوليا في الأحداث ودفعتهم للواجهة والقمة بعد سنوات الحظر والاعتقال بسجون أمن الدولة
"
قبل بضعة أسابيع كان الإخوان المسلمون في مصر مجرد "تنظيم محظور" و"بعبعا" دأب مبارك على تحذير الغرب من مجيئه في حال رحيله، ثم اندلعت الثورة الحالية وفرضت واقعا صعد الإخوان بموجبه سدة الأحداث وأرسلوا ممثلهم لمقابلة نائب رئيس الجمهورية سابقا عمر سليمان، بصفة الموفد الرسمي عن جماعة الإخوان المسلمين، التي "كانت" محظورة.

محليا ومنذ لحظة دخول ممثل الإخوان لمكتب عمر سليمان لم يعد الإخوان تنظيما خاضعا لسياسة الاحتواء والتحجيم يعمل في الظل وتلاحقه الحكومة متى رغبت بذلك دوليا، وبدءا من الولايات المتحدة أصبح الإخوان المسلمون طرفا حاضرا في المشهد المصري ويصفه أوباما بالأكثر تنظيما.

ولعل تحذيرات مبارك المستمرة للغرب من الإخوان ساهمت بمنحهم بعدا دوليا في الأحداث ودفعتهم للواجهة والقمة بعد سنوات الحظر والاعتقال بسجون أمن الدولة.

والإدارة الأميركية دأبت على خلط جميع الإسلاميين في سلة واحدة هي سلة بن لادن، وحتى تاريخ 13 يناير/كانون الثاني 2011 (أي قبل الثورة بأسبوعين) وجهت هيلاري كلينتون حديثها للحكام العرب في كلمتها بمنتدى المستقبل الذي عقد في قطر قائلة لهم "جددوا أنظمتكم السياسية، وإلا خلفكم الإسلاميون المتشددون".

وهو تصريح يؤكد أن سياسة إدارة أوباما كانت حتى ذاك التاريخ على نهج إدارة بوش، من حيث عدم التمييز بين الإسلاميين رغم اختلافاتهم الحركية والمنهجية، واعتبارهم جميعا متطرفين معادين للولايات المتحدة.

بل دأب الإعلام الغربي على محاولة ربط الإخوان بتنظيم القاعدة، من خلال إيجاد صلة بين أفكار سيد قطب أحد منظري الإخوان وتنظيم القاعدة، وحاول ذاك الإعلام عبر برامج وثائقية إظهار قطب كأب روحي للقاعدة من خلال ما كتبه في "الظلال" و"معالم في الطريق".

ثم تبدل الخطاب فجأة في تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة بتاريخ 7 فبراير/شباط 2011، بل إنه رغم اعترافه بأن في جماعة الإخوان المسلمين "عناصر مناهضة للولايات المتحدة"، رفض الإجابة عن سؤال ما إذا كان الإخوان المسلمون يمثلون تهديدا، فما الذي حصل؟

الأرجح أن الإدارة الأميركية لم تتوقع تطور الأحداث إلى حد حتمية التغيير الذي يجعل من صعود الإخوان واردا جدا، ونستشف ذلك من التذبذب في الموقف الأميركي من أقصى الحياد إلى دعوة مبارك للرحيل. وحيث إن حماس تحكم غزة على الجانب الآخر من الحدود، يجد الأميركان أنفسهم بحاجة لسياسة جديدة تجاه أعدائها الإسلاميين، الذين دأبت على التعامل معهم جميعا -وبشكل مقصود- من منطلق تنظيم القاعدة.

السياسة الأميركية تجاه الإسلاميين

"
الاستثناء الأميركي للإخوان من خانة "المتطرفين" يقتضي انتهاء حالة العداء الشامل لكل الإسلاميين الحركيين الذين يتبنون فكر الجهاد ويسعون لإقامة دولة إسلامية، واختصاص "الوسطيين" منهم بحد أدنى من العلاقة قائم على تقبل وجودهم
"
وتكشف تصريحات أوباما إرهاصات السياسة الأميركية الجديدة مع الإسلاميين الحركيين في مصر وتحديدا الإخوان ذوي الثقل الأبرز، حين قال في حديثه لشبكة فوكس نيوز إن الاحتجاجات في الشارع المصري المطالبة بالتغيير "يمكن أن تأتي بنتائج أخرى غير الاختيار بين المتطرفين الإسلاميين وشعب مصري مقهور في ظل نظام ديكتاتور"، وهذا الاستثناء للإخوان من خانة "المتطرفين" يقتضي انتهاء حالة العداء الشامل لكل الإسلاميين الحركيين الذين يتبنون فكر الجهاد ويسعون لإقامة دولة إسلامية، واختصاص "الوسطيين" منهم بحد أدنى من العلاقة قائم على تقبل وجودهم، وربما السعي لاحتوائهم بدلا من صدامهم، والاستفادة من طبيعة تلك الحركات التي تتبنى العمل السلمي لتحقيق مكاسب أميركية ضمن إدارتها للأزمات والعلاقات المتشابكة في المنطقة. وتلك السياسة مفروضة كرها على الإدارة الأميركية للأسباب التالية:

1- الطبيعة السلمية لحركات الإسلام الوسطي
وفي سياق الحرب على الإرهاب لا تشكل حركات الإسلام الوسطي (ومنهم الإخوان) أي خطر على الولايات المتحدة، بل إن الإخوان تبنوا موقفا مناهضا لنشاطات القاعدة وهجمات سبتمبر/أيلول. وبالحد الأدنى صار الإخوان -وفقا لتصريحات أوباما- بعيدين عن تصنيف "الإرهاب"، ويعزز ذلك الاطمئنان الأميركي لجانب الجيش المصري الذي لن يقر حكومةً مصرية لا تقر العلاقات الحالية مع إسرائيل وأميركا، واطمئنان الإدارة الأميركية إلى عدم قيام الإخوان -المعروفين بمنهجهم السلمي- بالتصادم مع الواقع السياسي عبر فرض أجندتهم السياسية ذات الخلفية العقائدية، ولا مع الجيش المصري عبر تحوير مسار الثورة لتصبح ضد الجيش من بعد مبارك.

وخروج الإخوان المسلمين من دائرة الإرهاب والاعتراف بوجودهم من قبل أميركا يغلق الباب على أي حكومة مصرية قادمة تسعى لقمع الإخوان وإعادتهم للعمل في الظل، وهذا يعد منحنى هاما في تاريخ الجماعات الإسلامية التي توصف بالمعتدلة.

2- استنفاد موارد الحرب على الإرهاب
وهي موارد فجر ينابيعها بن لادن بهجماته واستغلتها أميركا لتدمير العراق وغزو أفغانستان والتدخل في شؤون الدول وبعد عقدٍ من تلك الهجمات بدأت معظم تلك الموارد بالنضوب، وعلى رأسها الحلفاء الذين ضاقوا ذرعا بالفواتير الثقيلة المترتبة على دعمهم لتلك الحرب، وكذا الموارد الأخلاقية التي نضبت بعد نقض مبررات غزو العراق وأفغانستان وفضائح ويكيليكس وغوانتانامو.

ومن ثم فإن الإدارة الأميركية بحاجة لصياغة جديدة تخفف من حدة تلك الحرب قائمة على تمييز الإسلاميين الحركيين الذين يوصفون بالاعتدال من أولئك الذين يوصفون بالتطرف ضمن فصل جديد من التعاطي الواقعي مع المجتمعات الإسلامية بعيدا عن عنجهية التفوق العسكري الأميركي، كما أن الحضور الأميركي في تلك المجتمعات يقتضي النأي بالأميركان عن خانة العداء للإسلام، خصوصا بعد فشل الإعلام الأميركي بتحسين صورة (نوايا الحروب الأميركية) تجاه العرب والمسلمين عموما، وسيكون مفيدا دعائيا التعاطي مع إسلاميين لا يتبنون العمل المسلح. وبذا ينشأ لدينا تعريف جديد للإسلام المعتدل وفقا للمفاهيم الأميركية، يشمل الخط الإسلامي الوسطي فعليا، ولا يقصد به ثلة الأنظمة الموالية لأميركا عربيا!

3- الواقع الجديد الذي أفرزته الثورة المصرية
ثم إن الإدارة الأميركية بحاجة للحوار مع الإسلاميين المعتدلين بحكم الأمر الواقع. وبعد أن فشلت سياسة الأميركان في خلط الإسلاميين جميعا بسلة بن لادن، ليس من بد سوى الاعتراف بالإخوان في تمهيد لمشهد سياسي قد يؤدي لصعودهم في بلد ذي عمق إستراتيجي لأمن إسرائيل، وهناك وعلى الجانب الآخر من الحدود حيث تحكم حماس غزة، يشكل صعود الإخوان في مصر دعما قويا لها، قد يفضي لإنهاء دائم لحالة الحصار المفروض عليها، وإطالة لأمد سيطرتها على القطاع، وهذا يقتضي التعامل بشكل واقعي مع الإخوان بمصر.

كما أنه ليس هناك بديل للإسرائيليين من إدخال حماس -مستقبلا- ضمن أي مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، خصوصا بعد احتراق أوراق السلطة الفلسطينية في سلسلة السقوط المتتابع لسمعتها وطنيا، وآخره ما كشفته "الجزيرة" من تنازلات في المفاوضات، وقد بادرت تركيا قبل فترة قريبة لفكرة إشراك حماس بأي مفاوضات، ووجود نوع من الحوار وحد أدنى من العلاقة غير قائم على العداء المطلق مع الإسلاميين الوسطيين في دولة كمصر سيكون أمرا ذا أهمية للأميركان في سياق تعهدهم بأمن إسرائيل.

نهاية الاختزال وبداية الاعتدال
إذن نجد أن العقيدة الأميركية البراغماتية في مكافحة الإرهاب مرغمة على التغير تبعا للواقع الجديد الذي أحدثته الثورة المصرية، إذ ليس الإخوان وحركات الإسلام الوسطي "متشددين إسلاميين" كما جاء في وصف هيلاري كلينتون وهي تحذر الحكام العرب من بدلائهم، ولن يكون كل الإسلاميين الحركيين "إرهابيين" بتصور الإدارة الأميركية، أو هكذا على الأقل ما فرضته الثورة المصرية.

كما أن تنظيم القاعدة الذي اتخذته أميركا ذريعة لممارسة حربها على الإرهاب ليس سوى تنظيم محدود لا يشكل حجر زاوية ولا مركز ثقل في الواقع المصري والإقليمي، إذ لا يمكن اختزال حركات "الإسلام السياسي" جميعا بتنظيم القاعدة وأدبياته.

"
منذ الثورة المصرية ستجد أميركا نفسها مرغمة على التعامل بإنصاف وواقعية مع الأطياف المعتدلة من حركات الإسلام السياسي، ومحاولة تحجيم الإسلاميين الوسطيين كما فعلت في السابق سيرتد سلبا على أي تعاط مع الواقع العربي والإسلامي
"
بل إن الاعتراف بالإخوان طرفا فاعلا في المشهد المصري فيه تحجيم كبير للعدو الوهمي الذي تحاربه أميركا باسم "الإرهاب"، ومنذ الثورة المصرية ستجد أميركا نفسها مرغمة على التعامل بإنصاف وواقعية مع الأطياف المعتدلة من حركات الإسلام السياسي، ومحاولة تحجيم الإسلاميين الوسطيين كما فعلت في السابق سيرتد سلبا على أي تعاط مع الواقع العربي والإسلامي.

ولن يعود الخوف من الإسلاميين المتشددين مبررا لدعم الأنظمة الطاغية التي تمارس "إرهاب الدولة" في العالم العربي، وهو مبرر خاطئ "للاستهلاك المحلي والإعلامي" دعم تلك الأنظمة لسنوات وسيكون على أميركا البحث عن بديل له لدعم إرهاب تلك الدول، كما أن سقوط إرهاب الدولة ممثلا في مصر (ومن قبلها تونس) لم يؤد لصعود متشددين إسلاميين ساعين للسيطرة على الحكم في تلك الدولتين، رغم حضور الإسلاميين الحركيين في المشهد الاجتماعي والسياسي في تلك الدولتين، وحضورهم حتى في مكالمة حسني مبارك الأخيرة (قبل يوم من تنحيه) مع بنيامين بن إليعازر حين قال "لن أفاجأ إذا رأيت مزيدا من التطرف والإسلام السياسي ومزيدا من القلاقل في المستقبل" في سياق شكوى مبارك من تخلي الولايات المتحدة عنه.

نقلا عن الجزيرة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger