الثلاثاء، 10 أبريل 2012

الديمقراطية قبل الشريعة والاستقلال قبل الاثنين

             
آخر تحديث: الثلاثاء 10 أبريل 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة
لا نريد أن نقحم الإسلام والشريعة فى سوق المزايدة، حيث ما عاد واردا التساؤل عما إذا كنا معهما أو ضدهما. ذلك أن السؤال الصحيح هو كيف نفهم الاثنين ومن أى باب ندخل إليهما، وما موقعها فى أولويات تحديات اللحظة الراهنة.

(1)

هذا الأسبوع ظهر شاب ملتح على شاشة التليفزيون وقال فى حوار معه إن الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح المرشح الرئاسى «ضد الشريعة». رغم أن الجميع يعلمون أن الرجل كان ناشطا إسلاميا قبل أن يولد الشاب المتحدث. ويوم الجمعة الماضى احتشد نظراء له فى ميدان التحرير للتضامن مع المرشح حازم أبوإسماعيل، وكان من بين هتافاتهم أن «الشعب يريد شرع الله» وفى تونس أنزل واحد منهم علم البلاد واستبدله بعلم آخر أسود اللون، يرى البعض أنه علم الخلافة الإسلامية. وخرجت مظاهرة ضمت عدة آلاف دعت إلى إقامة دولة مدنية، فردت عليها آلاف أخرى بمظاهرة مقابلة دعت إلى إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. وحذر وزير الداخلية التونسى على العريض، وهو ناشط إسلامى من أركان حزب النهضة قضى 15 عاما فى سجن النظام السابق من تداعيات ذلك التراشق. إذ نشرت له صحيفة «لوموند» الفرنسية (فى 21/3) مقالة أدان فيه سلوك من أنزل العلم، وذكر أن قلة من السلفيين لجأوا إلى العنف فى مسعاهم لإقامة دولة إسلامية فى تونس، فاشتبكوا مع الجيش على مقربة من مدينة صفاقس، وكانوا ثلاثة شبان صغار السن. وقد ألقى القبض عليهم مع عشرات من أتباعهم. وقال إن هؤلاء وأمثالهم يشعرون بأنهم أقوياء إزاء ضعف مؤسسات الدولة بعد قيام الثورة، وقد حصلوا على السلاح من مخازن الجيش أثناء الفوضى التى عمت البلاد أثناءها. وخلص العريض فى مقالته إلى القول بإن دعاة العنف بين السلفيين هم الخطر الأبرز الذى يواجه تونس فى الوقت الراهن، وأن المواجهة معهم قادمة لا ريب.

عنف الحركة السلفية ليس معروفا فى مصر، لكن له تاريخا فى الجزائر وليبيا وتونس. لكن العقلية واحدة إلى حد كبير عندنا وعندهم. وصاحبنا الذى رفع الأذان أثناء جلسة مجلس الشعب فى مصر، ورفاقه الذين رفضوا الوقوف احتراما للسلام الجمهورى والنشيد الوطنى، هؤلاء لم يختلفوا كثيرا عن الشاب الذى أنزل علم بلاده ورفع بدلا منه علما أسود. فظن أنه بذلك أقام دولة الخلافة فى المغرب العربى.

اختزال التدين فى بعض المظاهر والطقوس والتبسيط الشديد فى فهم دور الدين، والغيبوبة شبه التامة عن معطيات الواقع وأولوياته، من السمات الأساسية التى تميز تفكير قطاع عريض من السلفيين، علما بأن هؤلاء أتيح لهم أن ينتشروا فى أجواء الفراغ الكبير الذى عانت منه بلادنا، فى ظل التجريف السياسى الذى استصحب تغييب حركات الرشد الدينى التى تبنت المنهج الوسطى. ساعد على ذلك الانتشار أن مجتمعاتنا العربية متدينة بطبيعها، فضلا على التبسيط الذى اتسمت به الأفكار السلفية بتركيزها على الأشكال والمظاهر. إذ باللحية والجلباب أو النقاب يصبح المرء مؤهلا للانخراط فى الحركة وحائزا على جواز المرور إلى دوائرها. وليس سرا أن هذه المجموعات تتلقى دعما ماليا جيدا من أقرانهم فى دول الخليج، خصوصا التجار منهم الذين ينذرون زكواتهم لصالح تلك الدعوة.

(2)

إذ استثنينا مسألة لجوء بعض السلفيين إلى العنف فى تونس، سنجد أن ثمة تشابها من أكثر من وجه بين الحاصل هناك وما يجرى فى مصر، فالمجتمع متدين ومحافظ فى البلدين. كما أن النظام القمعى ساد كلا منهم، وإقصاء حركات الاعتدال الدينى تم عندهم وعندنا، حتى إغلاق منارة جامع الزيتونة فى تونس قابله تأميم الأزهر فى مصر. ولأن السلفيين كانوا خارج السياسة ولم يكونوا معنيين بها. فإن الأمن غض الطرف عنهم فى البلدين، مما ساعد على انتشارهم فى الأوساط الشعبية. وحين قامت الثورة فى البلدين ظهر المجتمع على حقيقته وبرز السلفيون على الواجهة، وتحولوا إلى قوة شعبية معتبرة، رغم أنهم فى تونس لم يشاركوا فى الانتخابات وبقوا فى الشارع. أما فى مصر فإنهم بمشاركتهم فى الانتخابات من خلال ائتلافهم خطوا خطوة إلى الأمام، ودخلوا إلى حلبة المشهد السياسى.

حين بدأت فى تونس خطوات وضع الدستور، ثار الجدل حول هوية الدولة. فدعا فريق إلى إقامة الدولة المدنية، وارتفعت أصوات السلفيين داعية إلى الدولة الإسلامية وتحكيم شرع الله. وهو ذاته الحاصل فى مصر. ورغم أن الأمر لم يحسم فى مصر فإنه فى تونس حسم على الوجه التالى: فى أكثر من مناسبة أعلن الشيخ راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة صاحبة الأغلبية فى البرلمان أو الجمعية التأسيسية أن تونس بلد مسلم قبل الحركات الإسلامية وبعدها ولا يحتاج فى ذلك إلى شهادة من أحد. ورفضت الحركة مزايدة الآخرين على هوية الدولة، واكتفت بالنص الوارد فى الدستور على أن تونس دولة حرة لغتها العربية ودينها الإسلام، دون الإشارة إلى مرجعية الشريعة للقوانين التى تصدر. وأعلن الناطق باسم «النهضة» أنهم ارتضوا ذلك حرصا على تحقيق الوفاق الوطنى وتجنبا لإثارة الشقوق فى صفوف المجتمع.

فى حوار مع الشيخ راشد الغنوشى فى تونس قال لى إن الحركة حين تبنت ذلك الموقف فإنها لم تتزحزح عن التزامها بالهوية الإسلامية للمجتمع. لكنها كانت تصوب النظر نحو الوفاق الوطنى المطلوب للنهوض بذلك المجتمع. كانت أعينها على الأمن الذى ينبغى يستتب وعجلة الاقتصاد التى ينبغى أن تدور، وطوابير العاطلين الذين يتعين توفير فرص العمل لهم، والمؤسسات الديمقراطية التى يجب أن تنهض، ومحيطها المغاربى الذى خسرنا كثيرا بسبب ابتعادنا عنه، ولم يكن ممكنا أن ترحل كل تلك المشكلات لصالح استمرار العراك حول صياغة دور الإسلام فى مجتمع يعد الإسلام أحد ثوابته ومسلماته.

(3)

الصورة فى مصر أكثر تعقيدا، سواء بسبب أزمةالنخبة التى رسبت فى مادة الوفاق، أو بسبب وضع البلد السياسى والالتزامات الخارجية التى تقيد حركته حتى تكاد تكبله. ذلك أن تمزق الصف الوطنى يبدو واضحا لكل ذى عينين جراء طموح الأغلبية وسوء تقديرها من ناحية، وتعنت الأقلية ومراراتها من ناحية ثانية. وكان من التداعيات البائسة التى ترتبت على ذلك التمزق والتراشق، أن فلول النظام السابق انتهزت فرصة اشتباك الطرفين وتقدمت إلى صدارة المشهد السياسى لتلعب دور المنقذ الذى يحمى حمى الوطن. وهو ما شهدناه مؤخرا فى قوائم المتقدمين للتنافس على رئاسة الجمهورية.

ومما يؤسف له أن الأغلبية الإسلامية التى تم انتخابها فى مجلس الشعب خوفت المجتمع ولم تطمئنه. فأداء الإخوان لم يكن مقنعا ولم يكن وفاقيا. وبدا من سلوكهم أنهم معنيون بحضور الجماعة ودورها بأكثر من عنايتهم بلم شمل الصف الوطنى وتعزيز تماسكه.

كما أنهم فهموا خطأ حدود مسئولية الأغلبية، حتى تصوروا أنها الممثل الشرعى والوحيد للمجتمع. أما السلفيون فقد بدا أن مسألة تطبيق الشريعة همهم الأول إن لم يكن الأوحد. وتصور بعضهم أنهم بدورهم الممثل الشرعى الوحيد للملة على الأرض. ولأنهم قادمون جدد إلى المسرح السياسى فقد تمترسوا حول شعار تطبيق الشريعة، وبدا أنهم غير مستعدين للحوار حول كيفية تنزيله على أرض الواقع وصيغ ذلك التنزيل، والمقاصد المرجوة منها. آية ذلك أنهم ــ مثلا ــ يدعون إلى تغيير المادة الثانية من الدستور لكى تنص على أن أحكام الشريعة الإسلامية ــ وليس مبادئها ــ هى المصدر الأساسى للتشريع. ورفض بعضهم ما قلته ذات مرة من أنه عند المفاضلة بين الاثنين، فالإشارة إلى مبادئ الشريعة أو مقاصدها أوفى وأصوب من النص على الأحكام. ليس فقط لأن مصطلح المبادئ مستقر فى الدستور ويصلح كأرضية للوفاق والتلاقى مع الآخرين المختلفين، ولكن أيضا لأن إلى جوارنا دولا تطبق الأحكام ولا تلتزم بالمبادئ التى هى الأهم والمنشودة فى النهاية. حتى إن منها ما يطبق الحدود الشرعية ــ أو يدعى ذلك ــ فى حين يهدر المقاصد التى منها العدل والحرية والمساواة. وقد أوقفت الحوار ذات مرة ياسأ من إقناع واحد منهم حين سألته أيهما أهم عندك: الحرية أم الحدود فرد على مستنكرا وقائلا: أتريد أن تفرط فى حدود الله؟!

من أوجه التعقيد الأخرى فى المشهد المصرى التى تفرض تماسك الجماعة الوطنية وتضغط بشدة على أولوياتها ـ ولا نظير لها فى تونس ـ تلك الالتزامات الخارجية التى قلت إنها تكبل البلد، وتتمثل فى عبء علاقات مصر بالولايات المتحدة ومعاهدة السلام مع إسرائيل. وهى الالتزامات التى أزعم أنها تحولت إلى «عاهات» سياسية ينبغى التعامل معها بحكمة تصوبها بما يرفع تعارضها مع المصالح العليا للوطن أو مع الأمن القومى العربى.

(4)

هذه الخلفية التى تضفى خصوصية على المشهد المصرى، تجعلنا نعيد النظر فى أولويات الملفات والعناوين التى يتعارك حولها المثقفون والقوى السياسية فى مصر. لذلك تمنيت أن نكف عن المزايدة على هوية البلد والعبث بها.

فالأولون يفرقون الصف ويفسدون أكثر مما يصلحون، والآخرون يحاربون طواحين الهواء. وجدل الطرفين وعراكهم يشتت الصف الوطنى من ناحية، ويهدر الأولويات التى ينبغى أن يحتشد من أجلها الجميع. لقد قال الدكتور يوسف القرضاوى ذات مرة إن الديمقراطية مقدمة على الشريعة، وهو ما أوافق عليه تماما وإن كنت أضيف أن استقلال الوطن مقدم على الاثنين، ذلك أننى أزعم أن استقلال الإرادة المصرية هو القضية الأولى التى يتعين على الجميع أن يلتفوا حولها، حيث لا معنى لأى جدل حول الهوية أو الشريعة ولا قيمة لأى إنجاز على هذين الصعيدين طالما أن الوطن لا يملك قراره فى قضاياه المصيرية. وكما أن المرء يرفع عنه التكليف إذا فقد عقله. فكذلك الوطن يرفع عنه التكليف إذا سلبت إرادته.

إن معركة استرداد الإرادة الوطنية ومقاومة أمر التبعية والإلحاق بالخارج ينبغى إنجازها قبل الانتقال إلى بند آخر فى جدول أعمال الجماعة الوطنية المصرية. وحين تغيب هذه الحقيقة عن إدراك أو برامج ممثلى القوى السياسية المختلفة فذلك يعنى أحد أمرين، إما أنهم ذاهلون عن تحديات المرحلة وأولوياتها، أو أنهم هازلون وليسوا جادين فيما يقولون ويفعلون، وفى الحالتين فإنهم يصبحون عبئا على العمل الوطنى وليسوا رافعه أو عونا له.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger