وفاة رجل من زمن العمالقة: احمد بن بلة. بقلم رياض الصيداوي (مع ألبوم صور نادر له)
ر
حم الله الرئيس احمد بلة.
التقدمية- خاص- رياض الصيداوي- ينشر بالتوازي مع صحيفة الحصاد الأسبوعي- رجل من رجال زمن العمالقة الكبار الذين صنعوا التاريخ في النصف الثاني من القرن العشرين. كنت مهتما به وبمذكراته وبالكتب القليلة التي كتبها منذ أيام الجامعة. ولما انشغلت بالموضوع الجزائري منذ عشرين عاما تقريبا زادت رغبتي في لقائه هو بخاصة وبقية الشخصيات التي أنجزت ثورة نوفمبر 1954 بعامة.
وتوفرت لي هذه الفرصة في جنيف حيث جمعنا على طاولة واحدة صديقنا المشترك المفكر اليساري السويسري جان زجلر. منذ أول لقاء لاحظت بيسر ذاكرته الثاقبة فهو يتحدث بتركيز شديد ويستحضر الأرقام والتواريخ والأشخاص بدقة شديدة وكأن ما حدث هو بالأمس فقط… لا يحقد على أحد ولا يهاجم أحد وحتى الراحل هواري بومدين الذي سجنه طيلة 14 عاما يذكره بخير معتبرا أن له حسنات وما فعله للجزائر في التصنيع والتعليم يشكر عليه. … ثم تكررت القاءات بيننا منفردين في مقهى “البريزيدان” على ضفاف بحيرة ليمان في جنيف. “سي احمد” أصبح صوفي المعالم في الفترة التي عرفته فيها في جنيف. ذلك النور الذي يشع من وجهه يعرفه كل من اقترب منه. رجل تعرض لعشرات محاولات الاغتيال في حياته وشارك في أشرس معارك الحرب العالمية الثانية وشاء الله أن يمتعه بالحياة وبالصحة وبالذاكرة القوية إلى حد وفاته عن سن يناهز 96 عاما.
وسي “احمد” يذكرني كل مرة بقوله أنه “ناصري” كان ومازال… ويفتخر بتلك السنوات العظيمة ويعدد ما تعرض له العرب من مؤامرات حتى لا ينجح مشروعهم في الوحدة وفي التصنيع وفي الثورة العلمية…
هوياته في جنيف هي المشي كان يمشي طوال الوقت إلى أن بدأ يتعب في السنوات الأخيرة لكنه حافظ على جسم الرياضي الذي كان لاعب كرة محترفا في فرنسا قبل أن تندلع ثورة نوفمبر 1954.
لم يكن يحب الظهور الإعلامي والتصريحات والأضواء… اختار عزلة صوفية متعمدة… وإن كان ل14 سنة سجنا أيام الراحل هواري بومدين فضلا عليه فهي في تعلمه اللغة العربية واتقانه لها… حيث خصص هذه السنوات لتعلم العربية وإتقانها والاطلاع على أمهات الكتب في التراث العربي الإسلامي وفي الشعر… لقد دخل السجن لا يحسن العربية وخرج منه متقنا لها لغة وثقافة.
أكثر شيئ آلامه وأثر فيه في السنوات القليلة الماضية هو وفاة زوجته… وإن قبل قضاء الله وقدره كمؤمن إلا أنه لم يستطيع إخفاء مسحة الحزن الجديدة عل محياه… فقد عرفها في السجن وتزوجها وهو في السجن أيام الراحل هواري بومدن…
هذه الأسطر هي لتذكير جيل الشباب بمن هو احمد بلة:
احمد بن بلا
ولد الرئيس الأول للدولة الجزائرية المستقلة في مدينة وهران غرب الجزائر. وعمل في الجيش الجزائري وحارب بشجاعة في الحرب العالمية الثانية فرقي إلي رتبة عريف. ومنح أوسمة لشجاعته في حملتي شمال إفريقيا وإيطاليا سنتي 1944 و1945 وعاد سنة 1946 إلي موطنه وانتخب عضوا للمجلس البلدي في مدينته الصغيرة. واندمج بسرعة في حزب حركة انتصار الحريات والديموقراطية في مقاطعة وهران. وفي سنة 1949 خلف حسين آيت أحمد في رئاسة المنظمة الخاصة شبه العسكرية. لكن سرعان ما كشفتها الشرطة الفرنسية سنة 1950 فقبض عليه. ولكنه هرب إلي القاهرة سنة 1952 حيث أنشأ مقرا للحزب. وعمل مع لجنة تحرير المغرب العربي. انتبه إلي الانشقاق الكبير الذي حصل في الحزب في الجزائر فاتصل ببوضياف والزعماء المقيمين في الخارج لوضع خطة تفجير الثورة. أعجب به الرئيس المصري جمال عبد الناصر وراهن عليه منذ البداية ليكون الزعيم الأول للثورة. فسخر له إذاعة صوت العرب لتهتم به أكثر من رفاقه. وأوصي به خيرا فتحي الديب مسؤول ملف الجزائر لدي المخابرات المصرية العامة.
نجح بن بلة منذ اندلاع الثورة في أول تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1954 في تنظيم عمليات تهريب السلاح المصري إلي داخل التراب الجزائري.
ونشط بين القاهرة وطرابلس وتونس والرباط. وقبض عليه يوم 23 تشرين الاول (أكتوبر) عام 1956 مع رفاقه الأربعة (حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمد خيضر، ومصطفي لشرف) بعد أن أجبرت القوات الفرنسية الطائرة التي تقلهم من مراكش إلي تونس علي الهبوط في الجزائر.
ولم يطلق سراحه من السجون الفرنسية إلا سنة 1962 وسرعان ما رشحته هيئة أركان الجيش بقيادة هواري بومدين لرئاسة الدولة الجزائرية المستقلة ضد رغبة الحكومة الجزائرية المؤقتة وبعض قادة الولايات في الداخل.
الانقلاب العسكري
قام بومدين، وزير دفاعه، بوضع حد لحكمه يوم 19 حزيران (يونيو) عام 1965 وأمضي بن بلة الزعيم الشعبي الوسيم أربع عشرة سنة في السجن حتي مجيء الرئيس الشاذلي بن جديد ليطلق سراحه. إن أحد أسباب شهرته الواسعة تعود إلي ما قدمه له الإعلام المصري القوي من دعم.
كان عبد الناصر ينظر إليه بحب خاص. ويعتبره الزعيم الغائب. يذكر أحمد حمروش في كتابه قصة 23 تموز (يوليو)، عبد الناصر والعرب أنه عندما سأل محرر مجلة كل شيء اللبنانية بتاريخ 13 آيار (مايو) عام 1963 الرئيس عبد الناصر عما إذا كان قد قرأ الحملة المتطرفة التي شنتها مجلة باري ماتش الفرنسية علي أحمد بن بلا لأنه أعاد إلي عبد الناصر الفضل الأول في انتصار ثورة الجزائر، ولأنه قام بزيارة عبد الناصر قبل زيارة أي بلد أو رئيس عربي بعد الإفراج عنه . أجابه عبد الناصر إن علاقتي بالصديق بن بلة علاقة قديمة تعود إلي ما قبل الثورة.. إلي عام 1954 عندما كان يقيم في القاهرة كلاجئ سياسي.. وقد توطدت علاقتي الأخوية به وزملائه، زعماء الجزائر وأعضاء حكومتها، ولم تنقطع الاتصالات بيننا في أي وقت . وعندما سأله المحرر وهل ظلت هذه الصلة قائمة عندما كان بن بلا في السج ن. ضحك عبد الناصر وقال وهو في السجن في باريس. كانت الاتصالات مستمرة بيننا ولم تنقطع أبدا…
انتصار تحالف : بن بلا و”جيش الحدود”
لم تكن هيئة الأركان قادرة سنة 1962 على استلام السلطة مباشرة، لأسباب تاريخية، حيث يتميز قائدها والمحيطون به بصغر سنهم، وبعدم انتمائهم إلى مجموعة القادة الأوائل الذين أسسوا جبهة التحرير، فلم تكن لهم “الشرعية التاريخية” اللازمة التى تخول لهم استلام مقاليد الحكم. وكانت في مواجهتهم الحكومة المؤقتة التى انتخبت ديموقراطيا من قبل المجلس الوطني للثورة الجزائرية. فقررت أن تبحث لنفسها عن حلفاء سياسيين تتوفر فيهم شروط الشرعية التاريخية لمواجهة خصومها في الحكومة المؤقتة وحلفائها من بعض قادة الولايات المنتمين إلى جيش التحرير الوطني في الداخل.
وعقد بومدين العزم على “أن يحتم تحت برنص الزعيم بن بلا” .فاتصل عبد العزيز بوتفليقة ببن بلا ورفاقه المحتجزين معه في فرنسا، وأبلغهم بأسباب الأزمة وبالوسائل التى تقترحها هيئة الأركان لحلها وهي: خلق مكتب سياسي لجبهة التحرير متمايز عن الحكومة المؤقتة ووضع برنامج. فأيد هذا الحل بن بلا وخيضر وبيطاط، ورفضه آيت احمد وبوضياف معتبرينه انقلابا وتدخلا من العسكريين ومن جهته كان بن بلا ومجموعته يعتقدون أنهم سيوظفون هؤلاء الشباب المتحمس ليزيحوا بدورهم خصومهم السياسيين ويصلون من خلالهم إلى السلطة. وحينما خرجوا من السجن، واصلوا مسعاهم في حشد الحلفاء ضد الحكومة المؤقتة وانفجر الصراع علنيا في الاجتماع الذي عقده المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس، والذي دام من 27 مايو/أيار إلى 4 حزيران/يونيه 1962 ففرزت القوى المتعادية.
وفي 28 حزيران/يونيه 1962، عقدت الحكومة المؤقتة اجتماعا في تونس، حيث اتخذت قرارا على جانب كبير من الخطورة، إذ يقضي بحل هيئة الأركان وعزل قائدها بومدين ومساعديه منجلي وسليمان (قايد أحمد) .
ولكن، فشل امتحان القوة هذا، فقد اصطف “جيش الحدود” وراء قائده بومدين، وأعلن ضباطه أنهم لن يأتمروا بأوامر الحكومة المؤقتة وسيواصلون العمل تحت أوامر قائد هيئة الأركان .
رياض الصيداوي – جنيف- 12-4-2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق