الأحد، 27 فبراير 2011

الحرية بنكهة النيل



نقلا عن الجزيرة

تحكي قصة "الجذور Roots" الصادرة عام 1976 بقلم الكاتب الأميركي أليكس هيلي -قبل أن تتحول إلى مسلسل شهير يحمل اسمها- حكاية الرق والعبودية في العصر الحديث، وتتحدث عن همجية أوروبا وأميركا وبشاعتهما في اصطياد الأفارقة الأحرار والمتاجرة بهم كعبيد في أسواقهما للعمل في مزارع الإنسان الأبيض كالحيوانات.

القصة تستعرض مشاهد حية من معاناة الأفارقة الطيبين على يد المستعمر وأذناب المستعمرين ابتداء من مداهمة البلطجي الأبيض -بمعاونة الخائن الأسود- القرى الأفريقية الوادعة، يشعلون النيران ويصطادون الناجين ويقتادون الأسرى بكل قسوة ووحشية إلى السفن ليتم نقلهم كالحيوانات عير المحيط إلى القارة القديمة أو العالم الجديد.

"
قصة الجذور تستعرض مشاهد حية من معاناة الأفارقة الطيبين على يد المستعمر وأذناب المستعمرين ابتداء من مداهمة البلطجي الأبيض القرى الأفريقية الوادعة، واصطياد الناجين من القتل ليتم نقلهم كالحيوانات عبر المحيط إلى القارة القديمة أو العالم الجديد
"
في أحد المشاهد تجسد القصة معاناة بطلها -وكان ابن شيخ القبيلة- كونتا عمر كنتي في قبو السفينة وهي تمخر عباب المحيط على مدى شهور -يموت خلالها من المائة ستون- إلى حين بلوغ ميناء أنابوليس بأميركا الشمالية في 29 سبتمبر/أيلول 1767 "استيقظ كونتا ليجد نفسه نائما على ظهره بين رجلين آخرين في حفرة من الظلام، كان كل جسده كتله من الألم والضرب الذي تلقاه على مدى أيام أربعة، سمع صوت الأنات المكتومة بكل اللغات، دقق السمع وإذا بصيحة تتعالى بالعربية "اللهم في السماء ساعدني".

ورغم أنه لا يستطيع أن يقعد على ركبتيه ولا يعرف حتى أين اتجاه القبلة فإنه أغمض عينيه واستلقى وصلى طالبا من الله المغفرة. كانت الرحلة عصيبة، عانى فيها المحبوسون المقيدون بالأغلال من آلام الأسر والجوع والرائحة النتنة من قيائهم وبولهم وبرازهم، وقرصات قمل الجسد... امتلأ كل المحبس بالقمل والبراغيث والفئران ضخمة الحجم التي كانت تعض الجروح المتقيحة.

لم يدر بخلد كونتا كونتي في ذلك الموقف الرهيب أن اليوم الذي ينتصر فيه على جلاديه -ولو بعد الرحيل عن هذه الدنيا- كان أقرب مما كان يتصور... حين يعلن أبراهام لنكولن تحرير العبيد عام 1862، ويتوج نضال مالكولم إكس ويتحقق حلم مارتن لوثر كينغ بإقرار قانون الحقوق المدنية للسود عام 1957، وينتخب باراك أوباما أول رئيس أميركي أسود يدخل البيت الأبيض عام 2009، وتتكسر قيود الأحرار في أقبية أمن الدولة في شمال أفريقيا عام 2011.

لم تمنع مسافة الـ250 عاما الفاصلة بين قبو السفينة وقبو أمن الدولة أن يكون القبو هو القبو والإذلال هو الإذلال، والتعذيب -وإن تعزز لاحقا بفعل التطورالعلمي بتقنيات الصعق بالكهرباء- بقي هو التعذيب، كل ذلك في حين بقي فيه اليقين والإيمان الفطري في نفوس الأحرار والمظلومين بإجابة دعائهم وإنفاذ ثورتهم -ولو بعد حين-، هو هو لم يتغير.

ظلم الإنسان أخاه الإنسان في كل زمان لم يكن ليمنع قط تفجر مياه النيل بأنفاس هؤلاء الأحرار ومن أعماق أعماق جذور الأرض الأفريقية الطيبة محولة هديرها إكسير تحرر وثورة.

وعندما يبلغ النيل النقطة التي كسر عندها إيمان السحرة جبروت فرعون، يتفرع النهر العظيم قاهرا الفراعنة -ومن سار على دربهم من المتفرعنين الصغار- شرقا وغربا، بعد أن تكتسبت دفقات الحرية الكامنة في أعماقه نكهتها المصرية المحببة.

إلى الشرق سار صلاح الدين وعينه على القدس، ولكن بعد إنجاز المهمة الكبرى في الشام، حيث يذكر المؤرخون كيف ناهز عدد دويلات بلاد الشام في ذلك الوقت عدد أعضاء جامعة الدول العربية اليوم، وكيف كان الأخ يستنصر الصليبيين على أخيه كما هو الحال اليوم! وبانتهاء المهمة كان الفتح المقدسي أشبه بتحصيل حاصل.

ويذكر المؤرخون أن أول شيء فعله القائد بعد سجوده بالأقصى محررا وفاتحا وشاكرا هو النداء أن “إليَ بصاحب الزيتونة، فقد حان وقت الوفاء بالوعد!". أما الزيتونة وصاحبها فقد انضما إلى الجيش من تونس... وأما قصتهما -وكانت السبب بقبول القائد فتى صغيرا بجيشه- فكانت وصية الجد للحفيد من على فراش الموت أن اغرس تلك الزيتونة في باحة الأقصى فور الخلاص من الصليبيين.

وإلى الشرق بعدها سار سيف الدين قطز محررا القدس للمرة الثانية ومن أيدي المغول في هذه المرة.

وقبيل التشريق نحو انتصار حرب رمضان المجيدة، وقف الفريق الراحل سعد الدين الشاذلي على ضفة النيل جنوب مصر وسط جنده خلال التدريب "من يشير عليَ بعلاج لخط بارليف؟"... كان الخط الدفاعي الحصين على طول قناة السويس قلعة أسطورية تحت الأرض مدعمة بسد رملي عال عصي على زحف أي جيش، مستعص على قنابل الطيران والمدفعية، وكانت أقل فاتورة للاقتحام خسارة القوة الضاربة للجيش تبعا لفقدان عنصر المفاجأة والانكشاف تحت نيران الأرض والجو معا.

الحل السحري أن "اضرب الماء بالتراب ينجلي كل شيء” جاء على لسان أبسط جندي في ذلك الجيش، لتصبح مضخات الماء الضخمة على جبهة الشرق في قناة السويس بعدها مفتاح نصر دك السد الرملي الرهيب -ومعه أسطورة الجيش الذي لا يقهر- في لحظات.

ومن يدري فلربما كان جد الشاذلي وجد ذاك الجندي حاضرين في مباغتة المقاومة الشعبية للجيش الصليبي القادم من ثمان دول أوروبية إلى الجبهة الغربية في المنصورة عام 1248م بطريقة لم تخل من روح الفكاهة المصرية، إذ عام أهل المدينة في النيل وثمار البطيخ الأجوف خوذات فوق رؤوسهم منقضين على الغزاة المخدوعين بثمار الجنة، ومحققين النصر الظريف وليقتاد لويس التاسع ملك فرنسا أسيرا إلى دار القاضي ابن لقمان.

"
حمل جند ابن العاص ثورة الحضارة إلى أهل تونس الذين نقلوها غربا بدورهم ليتوج أهل المغرب العربي والشام "الأندلس" وعلى مدى ثمانية قرون -ربما- كأعظم حضارة في التاريخ، ومن رحمها ولدت النهضة الغربية التي نراها اليوم
"
وقبلها بقرون حمل جند ابن العاص ثورة الحضارة إلى أهل تونس الذين نقلوها غربا بدورهم ليتوج أهل المغرب العربي والشام "الأندلس" وعلى مدى ثمانية قرون -ربما- كأعظم حضارة في التاريخ، ومن رحمها ولدت النهضة الغربية التي نراها اليوم.

صحيح أن فيضان النيل -مع مجيء سني قحط عجاف وحتى الأمس القريب- بات يفتقد، وصحيح أن حال أهل النيل وغزة -في تلك الأثناء- صار لا هو بالمبارك ولا بالحسن.

وصحيح أن التحول نحو الشرق في سني القحط الطويلة ما جاوز غير حصار إخوة... إيغال في دمهم... بل ورفد الآلة العسكرية لعدوهم بالطاقة المجانية لقتلهم، ولا فرق بين أخ وأخ من بينهم... أفي فلسطين كانوا أم بين رافدين همهم.

وصحيح أن مواكب فرسان الحرية غربا تحولت إلى سفن النخاسة القديمة نفسها مع تنوع للحمولة في عصر العولمة. لم تقتصر البضاعة على الإنسان الأفريقي الأسود ولا على الذهب العربي الرخيص الأسود، بل تعددت الألوان والوجوه وإن توحدت اللغة، فالمصفدون بالأغلال أمسوا من كل لون وجنس وصبغة.

وبعد أن كانت أنابوليس للسفينة زمن كونتا كنتي هي الوجهة، صارت غوانتانامو -جوا وبحرا- بعد الانتهاء من التحقيق في أقبية سليمان وزبانية ابن علي هي الجنة. وحتى لو طال التحقيق أو عزَت يوما نخاسة، فسفن البضاعة لن تنضب ببساطة... إلى الغرب نقود شعوب منهوبة، لتعود بخيرات موعودة... شحنات قمح برسم السمسرة، وتقنيات قمع تطيب معها المقبرة.

ولكن رغم كل ما تقدم، يظل النيل هو النيل... يفيض بخير بعدما كاد ينحسر... أما الشعب فهو ذات الشعب... يستكين تارة ثم لا يلبث إلا أن يثور وينتفض!

عندما ينتقل جيل طفلتي الصغرى في الربيع الثالث من مرحلة الهتاف مع المحتشدين على شاشات الجزيرة أن "الشعب يريد إسقاط النظام"، إلى مرحلة المدرسة مع قصة سيدنا عمر -مسقط التوريث- وهو يأمر الشاب القبطي -الذي كابد الرحلة إلى المدينة لعرض مظلمة- أن يتبع والي مصر بابنه في القصاص "اضربه فهو إنما ضربك بسلطان أبيه" قبل أن يزلزل عمر الخالد للبشرية جمعاء بالإعلان العالمي عن حقوق الإنسان "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".

يكون قطار التحرر -مع خيار الثورة حيث يوصد باب الحرية- قد تجاوز بالفعل سائر دويلات الموز والخيار والبطيخ عبر حقول اليورانيوم المنضب في عربستان وفارستان وأفغانستان وأوزبكستان وما وراءها وعلى امتداد طريق الحرير شرقا، فيما المشهد غربا مع مراحل الانتقال أو البناء بعد الثورة لا يختلف.

إن خرائط وحدود دول الجيل القادم ربما لا تشبه الخرائط التي نعرفها اليوم، ومن يدري فقد تتنوع الأمور بين وحدة غير مركزية -على نمط الاتحاد الأوروبي- للدويلات السابقة واندماجية كأن تتحد مملكة أبناء حيص وجمهورية شلة تيس في دولة اتحاد قيس.

وبالتأكيد فعند لحظة الحقيقة تلك لن يرحم الأبناء الآباء من أسئلة إنكارية -لا تنتهي- على شاكلة:

• حقوقكم وإنسانيتكم... كيف كان جيلكم وسابقه يقبلان بكل ذلك القدر من الإذلال والمهانة وافتقاد الحس وانعدام الكرامة، دون نبس ببنت شفة؟ كيف كنتم تستكينون في ظل أنظمة -وممارسات- تؤجج الطائفية وتفتت الوحدة الوطنية إلى حد التعرض للعباد ودور للعبادة؟

• أرضكم ومقدساتكم... كيف استطعتم الوصول إلى ذاك المستوى من التفريط بأرض وشعب فلسطين -والعراق وغيرها- على مدى أجيال، دون القيام بما ينتظر من المقاومة؟ بل والأدهى إعلان عدوكم -من عواصمكم- حربه على أهلها ومقاوميها، وحصارهم -ومع الأسف- بدعمكم!

• تقدمكم وحضارتكم... بعد أن كانت دول مثل اليابان وكوريا ترسل وفودها حتى الخمسينيات للتعلم من نهضتكم، كيف انحدرتم بتلكم السرعة لتصبحوا -على مدى نصف جيل- آخر الركب وعنوان التخلف في كل شيء؟

لا شك أن هذا الجيل مطالب -إلى جانب الاعتراف بالكثير من الأخطاء- بتقديم الكثير من الأجوبة، دون تبسيط للموضوع بذريعة "الصفحات السود في تاريخ كل أمة كقتل قابيل هابيل وهما من رحم واحدة".

"
المطلوب مناقشة كل ما جرى ويجري في إطار سنن التغيير الاجتماعي، والدور الذي يمكن أن تضطلع به مكونات المجتمع المدني من أفراد ونخب في إحداث التغيير الحقيقي
"
والمطلوب هو مناقشة كل ما جرى ويجري في إطار سنن التغيير الاجتماعي، والدور الذي يمكن أن تضطلع به مكونات المجتمع المدني من أفراد ونخب في إحداث مثل هذا التغيير، مدعما بالأمثلة كي تتضح الصورة ويفهمها الأبناء في المراحل العمرية المختلفة.

وعلى قاعدة أن الدقائق التي يتطلبها تسخين الماء -ومنها إشارات عدم ركود من الفقاقيع الصغيرة- شرط مسبق للثواني الحاسمة التي تستغرقها ثورة الماء مع انفجار الفقاقيع الكبيرة لحظة الغليان، يمكن أن نتوقف عند بعض المحطات الهامة المرتبطة بصناعة حدث قد يكون الأكثر أهمية خلال العام 2011:

- حتى في زمن السقوط وأجواء القمع والتحجيم... ألم تكن في المجتمع الكثير من القوى الحية من شباب ومصلحين، وصناع حياة ومفكرين، وكتاب وقدوات وملهمين، وأصحاب مشاريع وبرامج حية ومبدعين؟

- ومع إغلاق الأبواب في وجه سائر مكونات المجتمع، وفي ظل تراجع الحريات وانحدار المؤسسة الدينية الرسمية وانحيازها إلى صف الاستبداد، ورغم كل فتاوى علماء وكهنة السلطان، ألم يمض المؤمنون -بالفطرة أن لا شيء ولا واسطة ولا نظام يمكن أن يقف بين المرء وربه- في طريق التغيير والثورة يدا بيد رغم الثمن المتوقع؟

- ورغم أن الواقع الاجتماعي في بلادنا لم يكن مكتملا تماما لإنضاج ثورة شعبية منظمة عصية على السرقة، ألم يشكل تصاعد صراع الإرادات بين الشعب من جهة والنظام -ومن وراءه- من جهة أخرى، الفرصة للمجتمع لاكتساب الكثير على صعيدي تطوير الشخصية وصقل الإرادة، بحيث كانت الثورة نفسها الجامعة التي ميزت منتسبيها أخلاقيا وسياسيا وتنظيميا وديمقراطيا؟

- أليس من المفارقة أن العالم الذي طالما خدع وانخدع بنظرية مشروعية أنظمة الاستبداد على رقاب شعوب توصف بـ"متطرفة خطرة على الحضارة والديمقراطية"، هو نفسه العالم الذي هزه رقي ووعي وتحضر وسلمية تلكم الثورة؟ أوليس العالم الذي نسي أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم ينصب غداة فتح مكة مشنقة ولا مقصلة بل عفوا ومرحمة، هو نفسه العالم الذي بدأ يكتشف أن الثورة عندنا مشروع سمو حضاري أخلاقي لا يقوم على دم أو كراهية أو انتقام أو محاكم تفتيش؟ وأن أبطال الثورة والحضارة الحقيقيين بعد الأنبياء والرسل -في عرفنا سلما أو حربا- هم كل من سار على دربهم واهتدى بهديهم من أمثال عمر والقبطي، سحرة فرعون وكونتا كنتي، صلاح الدين والشاذلي، وصاحب الزيتونة والجندي، وشباب الثورة المجهولين والمدون والإعلامي؟

رحم الله الشهداء والبوعزيزي وغفر لهم، وجعل حسنات الثورة في ميزان أعمالهم، وفي موازين أعمال كل من نال شرف الثورة وإن فاته شرف الشهادة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


Locations of Site Visitors
Powered By Blogger